عندما تكون آلة إنتاج ثقافة العنف أقوى بكثير من آلة محاربته : أيــــن نـــحـــن مـــن الـــحـــل…؟
لاشك أن تمدّد الثقافة العنفية يشي بفشل المقاربات المعتمدة وقصورها في معالجة هذه الظاهرة الخطيرة التي تهدد الأمن المجتمعي وتعصف بكل مقوماته وأسُسه،حوادث عنف غريبة من نوعها وجرائم بلغت حدّ الوحشية وتتتالى الأحداث والمحطات التاريخية لتؤرّخ لأبشع الجرائم وأعنفها ببلادنا ونتتالى المناسبات والأزمات وتتكرّر جرائم أخرى لا تختلف عن سابقتها في كم الوحشية والغرابة.
تلك هي أهم أركان الصورة وأبعادها التي توضح ظاهرة العنف الخطيرة التي تتمدّد يوميا وتستشري في البلاد .. ففي كل حين وزمن تتكرر نفس الأسئلة من قبيل :أين الدولة..؟ أين آليات التصدي ..؟ وتتناسل معها نفس الأجوبة من قبيل :هل أن آلة إنتاج ثقافة العنف أقوي من آلة محاربته ؟
في هذا السياق يقول الباحث في علم الاجتماع الدكتور سامي نصر أن العديد من النخب السياسية والفكرية و الإعلامية نبّهت إلى خطر العنف من خلال الإعلان عن بوادر أزمة اجتماعية حادة ستعصف بالمجتمع إذا لم يتم اتخاذ إجراءات عاجلة وجريئة… أقل ما يقال عن هذا الإعلان – دق ناقوس الخطر- هو أنه جاء متأخرا جدا ولكن ذلك لا يعني استحالة المعالجة بقدر ما يعني الابتعاد عن الشعارات الفضفاضة والتحركات الظرفية والعمل على ضرورة وضع استراتيجية ناجعة لمجابهة الظواهر الإجرامية المستفحلة في البلاد… ومقولة التفكير الاستراتيجي تشترط مقاربة ثلاثية الأبعاد (الماضي والحاضر والمستقبل)، ومن هذا المنطلق يمكن الوقوف على الماضي حتى نفهم الحاضر ونرسم المستقبل.
ويعتبر محدثنا الأسباب الأساسية لانتشار وتفاقم الظاهرة العنفية أو ثقافة العنف في غياب أو ضعف القانون الردعي، لكن المعالجة اليوم وفي هذه المرحلة بالذات لا يجب أن تقتصر فقط على البعد الردعي رغم أهميته، باعتبار أن آلة إنتاج ثقافة العنف أقوى بكثير من آلة محاربته .ويعتبر محدثنا أن ضعف أو غياب مفهوم هيبة السلطة من الأسباب المباشرة ، ويشير إلى سلطة الدولة، سلطة العائلة، سلطة المربي، سلطة المسؤول في العمل، سلطة كبير الحي… حيث وقعت عملية شيطنة لكل تلك السلط إن لم نقل «تشليكها».
بالإضافة إلى غياب النموذج القدوة أو ما يسميه ماكس فيبر بالنموذج المثال… «كيف يستقيم الظل والغصن أعوج» .ناهيك عن الدور السلبي للإعلام حيث لعب الإعلام التونسي دورا رئيسيا في نشر ثقافة العنف من خلال بعض البرامج الحوارية والدور الذي لعبه المنشط في ما يبث للأطفال مشيرا في السياق ذاته إلى ما كشفته دراسة من أن حوالي 80 % مما يبث لأطفالنا يتضمن رسائل عنفية، (الأشرطة والمسلسلات حوالي 75 %) وعدم الحرفية في نقل أخبار الجريمة وانعكاسات ثقافة «البوز» والركض وراء الرفع في نسب المشاهدة او المتابعة.
وتطرق محدثنا الى ضعف أو غياب ما يسميه دوركايم الردع الجمعي أو الاشمئزاز والاستنكار الاجتماعي للعنف واستبطان العنف وإعادة إنتاجه وهنا نتحدث عن التنشئة الاجتماعية ومفهوم «البرمجة الذهنية» لجاكوب مورينو ومفهوم «الهابيتوس habitus» لبيار بورديو، إذ تحوّل كل فاعل إلى متقبّل ومنتج للسلوك العنفي (الإنتاج وإعادة الإنتاج)،وأكد محدثنا ان العنف يعد ّمن إفرازات مرحلة ما بعد الثورة، فقد أكدت كل الدراسات في علم الاجتماع السياسي التي درست المجتمعات بعد قيامها بثورة أو انتفاضة كبيرة بروز ظواهر اجتماعية مرضية أو تفاقما لظواهر موجودة، والتي تكون عادة نتيجة التغيرات الفجئية والجذرية التي تعرفها تلك المجتمعات، و«إحداث تغييرات أو تعديلات في نمط الحياة»، مما يحدث «اختلالا في التوازن الاجتماعي للمجتمع»… وكل هذا تعيشه تونس اليوم خاصة وأن ثورة 17 ديسمبر لم تحركها النخب السياسية والفكرية، بل تفجرت في شكل انتفاضة وتحركات احتجاجية للمناطق والفئات الاجتماعية المهمشة، ثم بعد ذلك وظفتها نخب سياسية وجنى ثمارها أصحاب رؤوس الأموال والذين أصبحوا بسرعة البرق يتحكمون ويسيطرون على المشهد السياسي والإعلامي بالبلاد. فمن قام بــ«الثورة» ومن ساندها ومن تمنى مساندتها وجد نفسه اليوم غريبا عن المجتمع الذي يعيش فيه وأصبحت عملية «الاندماج الاجتماعي» تكاد تكون مقتصرة على فئات معينة وبشكل وقتيّ… وفي هذا المناخ الاجتماعي برزت على الساحة ظواهر اجتماعية لا تختلف في ما بينها من حيث درجة الخطورة ونذكر منها الانتحار، وجرائم القتل وخاصة التي يكون فيها الجاني والضحية من نفس العائلة ،مغامرات الموت (الحرقة).
ويؤكّد محدثنا أن العديد من الدراسات والبحوث السوسيولوجية أثبتت أهمية علاقة التأثير والتأثر بين نوعية التضامن الاجتماعي من جهة وبين نوعي الحياة الاجتماعية، وخاصة بروز أو اختفاء ظواهر اجتماعية معينة. وبالرجوع إلى ما عاشته بلادنا في السنوات الأخيرة نسجّل أن من بين أروع ما رافق الأيام الأولى للثورة التونسية هو ما نعبّر عنه بـ«التضامن الاجتماعي التلقائي» بين أفراد المجتمع بمختلف شرائحه، وتجسّد بشكل جلي في اللجان التي تكونت بشكل تلقائي في كل الأحياء (الشعبية منها والراقية) ليحمي بعضهم البعض بوسائل دفاعية أقل ما يقال عنها أنها وسائل بدائية ولكنها تحمل الكثير من الدلالات السوسيولوجية، ولكن سرعان ما بدأ هذا الشكل من التضامن يسير في اتجاه الاضمحلال تزامنا مع بروز الخلافات السياسية والتناحر السياسي في «البلاتوهات التلفزية» ومختلف وسائل الإعلام ثم داخل المجلس البرلماني حينها …
وبدأت روح التضامن تفقد معانيها الحقيقية داخل أفراد المجتمع لتأخذ مكانها الانقسامات والتشرذمات… كل هذا ساهم بشكل مباشر أو غير مباشر في «القضاء على مناعتهم القِيَمِيَّة والأخلاقية» و«انكسار معايير الجماعة التي من شانها أن تضبط الحياة الاجتماعية».ويرى نصر انه من الضروري الإشارة إلى الدور السلبي الذي لعبته النخب الفكرية والسياسية التي كانت شعبوية أكثر من اللازم فعوض اضطلاعها بقيادة المجتمع وتهيئته نفسانيا واجتماعيّا لتقبّل الأزمة الاقتصادية والسياسية التي ترافق كل الثورات، تجاهلت ذلك وانغمست في العمل السياسي وقبلت لعب الدور الرئيسي في تصفية الحسابات السياسية وتحقيق المصالح الضيّقة لبعض المتنفذين من رجال الأعمال.
إضافة إلى عنصر تكريس ثقافة الوهم الذي ساهمت فيه بشكل كبير الحملات الانتخابية لجل الأحزاب السياسية حينها إن لم نقل كلّها في تغذية حالة الفشل والإحباط التي يعيشها المواطن التونسي والنقمة على الذات التي تحوّلت إلى «آخر» منفصل عن الفاعل الاجتماعي، ثم تتسع دائرة هذه النقمة لتشمل المحيط الاجتماعي، وحالة اليأس من غد أفضل… حيث جعلت الوعود الانتخابية المواطن التونسي يعيش في عالم من الأحلام الوهمية سرعان ما استفاق من حلمه ليصطدم بواقع مرير فقد فيه قدرته على تحمّل الضغوطات والإكراهات الاجتماعية.. واقع انعدم فيه التوافق بين متطلّبات الحياة اليومية وما هو ممكن توفيره…
وأشار محدثنا إلى التهميش وتكريس ثقافة المقاس، فإذا كانت الشرارة الأولى للثورة في حقيقتها عبارة عن ردة فعل على حالة الإقصاء والتهميش وعدم تكافؤ الفرص بين المناطق والفئات الاجتماعية، فإن المواطن التونسي اليوم لم يلمس أي مؤشرات لتحقيق المطالب التي من أجلها ثار وانتفض وكسر هاجس خوفه، حيث انتاب كل من لم يكن على المقاس شعور بخيبة أمل وبخذلان من توسّم فيهم خيرا… هذا الوضع وهذا الشعور يساهم بشكل مباشر أو غير مباشر في خلق الأرضية الاجتماعية والنفسية لتغذية الظواهر العنفية والظواهر المشابهة لها زائد بروز ثقافات مغذية للظواهر الإجرامية والعنفية، حيث برزت في السنوات الأخيرة العديد من الثقافات السلبية والمغذية أو الداعمة والمولدة للظواهر الإجرامية والعنفية، نذكر منها «ثقافة الألم» و«ثقافة الفشل والإحباط» و«ثقافة التباكي والتشكي» و«ثقافة التشكيك»…
من الملفات التي تستدعي حلولا عملية : البناءات العشوائية تبعث الفوضى…وتثير الاستياء
عرفت بلادنا سنوات من الفوضى كانت «مرتعا» لطغمة من الفاسدين أتوا على الأخضر واليابس ولم يتر…