2024-02-22

تفاعلا مع دعوة جريدة «الصحافة اليوم» لإطلالة على واقع الثقافة ومؤسساتها : الرئيس يسلك طريق المعالم والمكتبات ويقف على صورة مكثّفة لحجم الخراب في القطاع..

تَفَاعُل رئيس الجمهورية قيس سعيد جاء سريعا مع دعوة توجهت بها جريدة «الصحافة اليوم» الى سيادته للنظر في واقع القطاع الثقافي وأهله ومؤسساته وكان ذلك في مقال بتاريخ 14 فيفري 2024 تحت عنوان «الرئيس تدخّل في كل القطاعات تشخيصا وتفكيكا ونقدا… وندعوه الى إطلالة على واقع الثقافة وحال أهلها ومؤسساتها…».

وبالفعل جاءت الاطلالة سريعة ومن أبواب مختلفة اختارها الرئيس بنفسه لمعرفته السابقة بها باعتبار تردده عليها زمن الدراسة أو التدريس الجامعي ومن هذه الابواب تكشّف على كمّ الخراب وكمّ الفساد وحجم الانهيارات والتدمير الذي ضرب المباني والمعاني… بحيث لم يسلم الحجر وقد خرب تماما ولم تسلم الكُتب المهدورة تحت انقاض الغبار وهي في الأصل كنوز مضيّعة أهلكها النسيان وأهلكها الجهل أيضا باعتبار أن «حرّاسها» لا يدركون حجم الجريمة التي ارتكبوها في حق المعرفة وتاريخ المعرفة الملقاة كالخردة في «مزابل» فضاءات ومعالم تاريخية متروكة تم أيضا تدميرها تدميرا ممنهجا حتى يتم التفويت فيها بعد تعفنّها الى «صيادي البيليك» لتتحوّل الى مطاعم أو ديار ضيافة وهو ما حصل بالفعل مع عدد من المعالم التاريخية بمدينة تونس وتحت أنظار بلدية تونس وشيخها وأيضا بعد موافقة وزارة الثقافة في سنوات سابقة على التفويت فيها مباشرة أو بعدم الاعتراض على التفويت… نعم حدث هذا خلال العشرية الفارطة وقبلها أيضا و«شيوخ المدينة» يعلمون ذلك وآخرهم يقف اليوم أمام القضاء بتهم وشبهات فساد…

الرئيس اختار اطلالته على واقع الثقافة ومؤسّساتها من باب المعالم التاريخية والمكتبات ذات العراقة الحضارية ـ أيضا ـ (وهو يعرفها جيّدا كما أشرنا باعتباره من روادها القدامى) وقد سلك طريقا كانت تسمى «طريق المعرفة الحقّة» لما تراكم فيها من مكتبات مرجعية تضم فصوص المعارف الانسانية ونصوصها الملهمة في مختلف الاختصاصات وخاصة في التاريخ وفي تاريخ العلوم والفنون والطب والآداب والشروحات الفقهية وغيرها من المراجع الكبرى الا أن هذه الطريق قد تحولت للأسف من «طريق المعرفة الحقّة» الى «طريق الخراب المدهش».. ومدهش كونه فوق الخيال وغير معقول وغير مبرّر يدلّ على اهمال كامل ولا مبالاة كاملة من طرف الادارة الثقافية التي أشرفت وما تزال تشرف عليها…
فمن جمعية صيانة مدينة تونس التي أصبحت بحاجة الى صيانة… مرورا بمكتبة الخلدونية والمقر القديم للمكتبة الوطنية ومكتبة الديوان وكلها معالم تاريخية و«عيون» من «عيون المعرفة الصافية» التي كانت تزخر بها مدينة تونس ومنها تخرّج علماؤها وأدباؤها ومؤرخوها ومصلحوها عبر هذه الطريق اختار الرئيس اطلالته لمعاينة حال الثقافة ومؤسساتها… ومن هنا تستمد هذه الاطلالة أيضا رمزيتها القوية ورسائلها المباشرة.. فتونس المحروسة تقف على إرث ثقافي وحضاري وتاريخي عريق وراسخ والحداثة المبكرة التي عرفتها تونس في مختلف المجالات إنّما هي من رحم هذا الموروث الثقافي العريق الذي «خَرِبَ» للأسف وتداعى وتم تدميره وقد تحوّلت بعض معالمه الى مطاعم أو ديار ضيافة ولا ندري إن كانت رمزية هذه الاطلالة ورسائلها قد وصلت الى مسؤولي وزارة الثقافة والى الوزيرة التي حمّلها الرئيس المسؤولية لتدارك كل ما وقع فيه المتعاقبون على الوزارة من أخطاء وفيهم من تورط في التفويت في عدد من المعالم وذلك بصمته وبعدم الاعتراض على عملية التفويت…
أهل الثقافة من فنانين ومبدعين من مختلف المجالات قالوا تعليقا على زيارة الرئيس بأنها لم تلامس المعاناة الحقيقية لأهل الثقافة في تونس وقضاياهم الحقيقية واكتفت بمعاينة التدمير الذي طال المعالم التاريخية… والواقع أنّ الرئيس قد اختار تلك «الطريق الخربة» باعتبارها «المرايا» التي تعكس «خراب المنظومة الثقافية» برمّتها وترهّل تشريعاتها وقوانينها كما تعكس الحال الرثّة للمبدع التونسي وحال الفنانين ممّن يتسولون أرزاقهم ويعيشون على الكفاف وعلى الحدّ الأدنى بل هم في «حالة من الإذلال» الذي لا يمكن له أن يستمر خاصة إذا ما كان صادرا عن مؤسسات الدولة وباسمها وسنوضح ذلك من باب التشخيص ثم من باب المقترحات:

من باب التشخيص الى باب المقترحات:

ـ يعيش القطاع الثقافي والفني عموما تهميشا كاملا من خلال وضعية متردية جدّا مرتهنة الى قوانين وتشريعات منتهية الصلوحية وبعضها يعود الى ستينات وسبعينات القرن الماضي مع غياب «قانون الفنان» الذي أتلفته الحكومات المتعاقبة وهو ملقى الآن في رفوف مجلس نواب الشعب ينتظر تمريره أمام جلسة عامة للمصادقة عليه بعدما درسته اللجان المختصة وبعد سلسلة من التعديلات والمراجعات وبالتالي لا بدّ من تعجيل النظر في قانون الفنان الذي يعتبر أساسيا بل حياتيا للفنانين المتفرغين حتى يضمن لهم الحدّ الأدنى من العيش الكريم.. ونعيد هنا التأكيد على أنّ عددا من الفنانين المصنفين معوزين ممّن أهدروا حياتهم على المسارح هم اليوم في وضع مذلّ جدّا على غرار المبدع المسرحي عيسى حرّاث والذي يتلقى من وزارة الثقافة منحة شهرية قدرها 300 دينار هي كل ما لديه بعدما يقارب الخمسين عاما قضّاها على المسرح وأمام الكاميرا… أليست هذه منحة مذلّة ومخجلة لنا وللوزارة وللوزيرة وللدولة التونسية مع العلم انه لا يتمتع لا بتغطية صحية ولا شيء يدلّ على وجوده ـ أصلا ـ على تراب البلاد التونسية.. نتحدث عن عيسى حرّاث الممثل الفذ وقس على ذلك عددا كبيرا من الفنانين التونسيين ممن يتلقون منحة «الفنان المعوز» وهي منحة مذلّة بعنوان مذلّ وتسمية مذلّةـ ايضا ـ وكثيرون ماتوا في عزلتهم قهرا وغبنا ومن فرط النسيان واللامبالاة.. هل نذكّركم بمأساة الفنان الكبير حسن هرماس الذي مات وحيدا في عزلته..؟
وهنا أيضا لا ننسى التعريج على الوضعية المأساوية لضحايا الفرق الجهوية التي تم حلها وقد تم تشريدهم وهم مشرّدون الى اليوم وبعضهم يحصل على منحة «الفنان المعوز» وذلك بعد استبدال الفرق الجهوية القارة بمراكز الفنون الدرامية وشخصيا اعرف من بينهم من تحوّل الى متسوّل لرزقه وكان زمن «الفرق القارة» نجما على المسرح الجهوي..
ـ نصل الآن الى صندوق دعم الانتاج الادبي والفني وترأسه لجنة أغلبها من الاداريين وهذا الصندوق تحوّل الى «صندوق عجب» يمنح الدعم لمن يشاء ويمنعه عمّن يشاء وعليه شبهات محسوبية وزبونيّة ولنا من الامثلة ما لا يمكن نشره ـ هنا ـ على هذه المساحة وثمّة مشاريع فنية بملفات فارغة وحصلت رغم ذلك على دعم سخيّ من الصندوق.
ـ الفضاءات الثقافية الخاصة تحصل ـ بدورها ـ على منح سنوية وعددها يقارب الخمسين فضاء أو أقل بقليل وبعضها مجرد «حوانيت» فارغة لا تصلح حتى لبيع «الفواكه الجافة» ومع ذلك تتقدم الى الوزارة وتحصل على دعم سنوي يتم صرفه كيفما اتفق دون آليات رقابية ومحاسباتية صارمة..

هذا بعض من فيض شاسع لا يقلّ في خرابه عن خراب المعالم التاريخية التي زارها الرئيس أول أمس وقد تحدثنا في ورقة سابقة عن النشر ودور النشر ومعرض تونس الدولي للكتاب الذي كاد أن «يتدمّر» بسبب قرار تأجيل ملتبس لولا تدخل الرئيس الذي أذن بتنظيمه في موعده وفي نفس الفضاء كما تحدثنا عن المهرجانات الصيفية وقد تحولت الى سوق لتكديس «الخردة الفنية» وتحدثنا عن العمل «الأركاييكي» للجان الوزارة وخاصة لجنتي الدعم والشراءات وكيف تحولت «مدينة الثقافة» إلى قلعة تستفيد من ريعها «أقلية مقيمة» على حساب أغلبية مطرودة في غياب سياسات واضحة في إدارتها وكيف تحوّلت المهرجانات المرجعية إلى «واجب إداري ثقيل»…
وعليه ـ وحتى لا نعيد ما أشرنا اليه في مقال سابق ـ وتأسيسا على قول الرئيس في لقائه برئيس الحكومة أول أمس «بأنه لا مستقبل لاي شعب دون ثقافة وطنية وبأن الثقافة هي قطاع من قطاعات السيادة ويجب أن تجد المكانة التي هي بها جديرة خاصة في مستوى الاعتمادات التي يجب أن ترصد لها» فإنّنا نخرج من منطقة الثرثرة إلى منطقة الفعل ونقترح تكوين:
أوّلا: «المجلس الأعلى للثقافة» وتوكل اليه مهمّة ما أسماه الرئيس وما أشرنا اليه في ورقة سابقة صياغة مشروع ثقافي وطني برؤية واضحة تقطع مع كل أسباب الترهّل في مستوى القوانين والتشريعات والأطروحات يستمد سياساته من طبيعة المرحلة بكل متغيراتها الوطنية والدولية بما ينتج هوية ثقافية مخصوصة غير معزولة عن الهوية الوطنية المفتوحة ـ بطبيعتها ـ على مختلف الهويات المجاورة… وتسند لهذا المجلس الأعلى كل الأدوار المتعلقة برسم السياسات العامة في المجال الثقافي (مبانٍ ومعانٍ) ويعيد من ثمة الاعتبار للفنان التونسي ولكل المشتغلين بالقطاع الثقافي ولِمَ لا التفكير في اعادة الاعتبار «لجوائز الدولة» في كل المجالات وهي جوائز اعتبارية محفّزة ومهمّة للحياة الثقافية ولها مثيل عريق في كل الثقافات الرائدة مع التأكيد على ضرورة مراجعة ميزانية وزارة الثقافة التي تذهب في نسبة كبرى منها إلى موظفي الوزارة التي يسمّيها البعض «الثكنة الثقافية» باعتبار كثرة موظفيها «قواعد وقيادات». وميزانية الوزارة كما هو معلوم تقدر بـ ٪0.69 من إجمالي الاعتمادات المرصودة لمختلف الوزارات.

إطلالة الرئيس على واقع الثقافة التونسية من أبوابها الخربة هي في الواقع اطلالة تقدم صورة مكثفة لحجم الخراب الذي طال الحياة الثقافية في تونس وهي اطلالة مهمّة ونعتبرها مقدّمة مُثلى للتعجيل ـ أولا ـ باصدار قانون الفنان لصون الحد الأدنى من كرامة المشتغلين بالقطاع مع التعجيل أيضا ببعث «المجلس الأعلى للثقافة» لمراجعة السياسات الثقافية وللقطع مع كل ما ترهّل من القوانين والتشريعات من أجل ارساء مشروع ثقافي وطني مفتوح على ثقافات العالم.
من هنا يمكن أن نبدأ… ولنا عودة…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

ذكرى الجمهورية بين «واقعتين»..!

يحتفل التونسيون اليوم بالذكرى 67 لعيد الجمهورية الموافق لـ25 جويلية 1957وهي ذكرى عزيزة على…