2024-02-16

الحرب على الفساد تزداد ضراوة وتعقيدا: والقضاء تحت الضغط العالي..!

تتهاطل هذه الأيام قرارات قضائية بفتح تحقيقات متصلة بشبهات فساد إلى جانب إصدار بطاقات إيداع بالسجن في حق عديد المشتبه بهم وذلك في نفس الوقت الذي يؤكد فيه رئيس الجمهورية قيس سعيد على ضرورة القيام بثورة تشريعية في عديد المجالات بما أنه يخوض اليوم «حربا بلا هوادة ضد الفاسدين والمفسدين الذين تسلّلوا إلى مؤسسات الدولة في كل القطاعات».

وفي اجتماعه الأخير بكل من وزيرة العدل ليلى جفال ووزيرة المالية سهام بوغديري نمصية، لم يتردد في التذكير بأنه «لا تراجع في هذه الحرب الى حين تطهير البلاد كلها من أسراب الجراد التي تتوالى على مؤسسات الدولة وعلى خيرات البلاد»، بل أكثر من ذلك أبلغهم بفصيح العبارة كما يقال «دعوتكما معا للنظر في جملة من ملفات الفساد والحسم فيها بسرعة من قبل القضاء».

وحسنا فعل ساكن قرطاج حين اعترف انه لا يمكن ان تبقى ملفات الفساد في أروقة المحاكم لسنوات وسنوات وقدّم لضيفتيه عينة من مظاهر الفساد في المؤسسات والمنشآت العمومية.

وهذه ليست المرة الأولى التي يقدم فيها رئيس الجمهورية على نصب ما يمكن أن نسميها محاكمة  مباشرة لعدد من المورطين حسب ما توفر لديه من ملفات في قضايا فساد وإفساد، وقد شاهدنا ذلك في مقاطع الفيديو المنشورة على الصفحة الرسمية لرئاسة الجمهورية سواء خلال الزيارات الميدانية التي أداها سيادته الى عديد المؤسسات أو في القصر الجمهوري بالذات عند استقباله بين الفينة والأخرى لوزيرة العدل بصفة فردية أو رفقة وزراء آخرين.

والحقيقة الأولى التي يتوجب الإفصاح بها هي أن ما يثيره رئيس الجمهورية إيجابي ومهم للغاية ويتناغم مع نبض الشارع بعامّته ونخبته، فالفساد بكل أشكاله وتمظهراته يقرّ به جميع التونسيين، ولسنا نبالغ حين نقول انها المسألة الوحيدة التي يحصل حولها مثل هذا الإجماع في الوقت الحاضر في بلادنا وتؤكده التقارير الدورية الصادرة عن الهيئات الوطنية والإقليمية والدولية المعنية بمكافحة هذه الآفة التي تنخر المجتمعات.

ولن يكون بمقدور تونس ان تنهض ويتوقف نزيفها ويصلح حال اقتصادها وتأمين مستقبل أبنائها دون إحراز تقدم ملموس في هذه الحرب المفتوحة التي لا يمكن ان تكون أمنية وقضائية فقط وإنما حربا شاملة تلعب فيها الثقافة والتربية والتعليم والفنون والسياسة والتشريعات أيضا دورا في نشر ثقافة مناوئة للفساد بكل أشكاله وأنواعه مع إيجاد البدائل والحلول الجذرية للأزمة المركّبة التي تضرب البلاد في العمق وتمسّ مقومات العيش الكريم للمواطن التونسي وهذه هي الطريقة الوحيدة للانتصار في الحرب على الفساد والاهم من ذلك تثبيت وتحصين هذا الانتصار ضد الردّة والانتكاسة.

وسواء اعتبرنا حديث رئيس الجمهورية «حملة تفسيرية» كما يريد هو ذلك أو «حملة انتخابية» كما نفهم نحن في الواقع، فهذا لن يغيّر في الأمر شيئا فالتفسير في نهاية المطاف هو شكل من أشكال ترويج ونشر مقاربة وأطروحة وبرنامج خاص بغرض إقناع الناس بوجاهته من أجل الانتصار لهذه المقاربة وتزكية صاحبها في أي استحقاق انتخابي لتنفيذ وتثبيت هذه المقاربة على يديه علاوة على انه من حق قيس سعيد على غرار بقية المواطنين الفعل والنشاط السياسي والمشاركة في الشأن العام بقطع النظر عن التجربة النضالية قبل ملحمة 14 جانفي 2011 غير المكتملة أو حتى بعدها.

وفي هذا الإطار دائما لا يختلف اثنان حول ما أكده رئيس الجمهورية من ضرورة أن يتحمّل كل مسؤوليته كاملة وان تقوم الإدارة بدورها وان يلعب القضاء دوره لوضع حد لكل مظاهر الفساد الموثّقة.

بعبارة أخرى الكرة في ملعب القضاء وهي بالفعل كذلك بقطع النظر عن الطريقة التي يقدم بها رئيس الجمهورية الموضوع وبقطع النظر أيضا عن الطريقة التي فُتحت بها الملفات وكيفية التعامل مع أصحابها فالدارسون البسطاء للقانون والعارفون بأبجدياته يدركون جيدا أنه ثمة كثير ما يقال حول الحرب على الفساد ودور القضاء فيها وسبل إقامة العدل الناجز بعيدا عن الضغط العالي وعن المحاباة وتصفية الحسابات والانتقاء والانتقام والتشفي وإطالة أمد المحاكمات واتخاذ إجراءات، صحيح أن القانون يضبطها لكنها قاسية وقصووية يمكن باجتهاد القاضي اجتنابها واختيار الأقل قسوة والأكثر مصلحة منها، فقرارات الإيداع بالسجن مثلا لأشهر وأشهر طويلة ليست بالضرورة الخيار الأنسب ليس فقط بحكم اكتظاظ السجون ولكن لوجود فرضية البراءة وكذلك الإجراءات الاحترازية الإدارية التي يمكن اتخاذها من قبيل تحجير السفر والإقامة الإدارية وحتى تجميد الأموال وغيرها لفترة يجب ألا تطول أيضا وإلا عدنا إلى نقطة الصفر ويبقى المتهم بريئا إلى ان تثبت إدانته.

ليس ذلك فحسب، قد يخلق كل هذا مناخا من الخوف لدى فئة رجال الأعمال وحتى الموظفين السامين في الدولة من المغامرة والإقدام على الاستثمار، وقد يمتد الخوف أو بالأحرى الحسابات إلى الخارج ويتخذ شركاء تونس مواقف على هذا الأساس لا تخدم مصلحتنا في الوقت الحاضر لأن لهؤلاء الشركاء حساباتهم وأجنداتهم وحتى «رجالهم».

ولا ننسى فوق كل هذا، أن الربط بين القضاء والإيقافات والصلح الجزائي من شأنه أن يخلق اللبس وان يجعل من التقاطع بين هذه المعطيات والمسارات مصدر خشية على استقلال الوظيفة القضائية وخضوعها ربما للوظيفة التنفيذية بالإضافة إلى أن القضاة عندما يشعرون أنهم في صراع مع الزمن ومع الماثلين أمامهم من المواطنين والمتابعين لهم من السلطة العليا في البلاد قد يؤثر في رسالتهم حتى وان كانوا متشبّعين بعقيدة ومقولة العدل أساس العمران.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

في الذكرى الأولى لملحمة طوفان الأقصى «7 أكتوبر..»: نصف الطريق إلى.. القدس عاصمة فلسطين

بكثير من الألم والحزن لفقدان آلاف الأشقاء، لكن أيضا بكثير من الاعتزاز والثقة والتفاؤل نحيي…