تظاهرة ثقافية مرجعية أخرى كادت أن تتأجل لولا تدخل رئيس الجمهورية الذي أعادها إلى موعدها الأصلي ونعني معرض تونس الدولي للكتاب إحدى أبرز الواجهات البرّاقة لتونس بعد ان تأجلت قبله الدورة الأخيرة لأيام قرطاج السينمائية وليس هذا فحسب ففعاليات ثقافية كثيرة قبرت وتم تهميشها بأشكال مختلفة في ظل غياب تام لأي مظهر يشي بوجود سياسات ثقافية كبرى في بلادنا. هنا نحن أمام جملة من الأسئلة المركزية التي لابد من طرحها حتى من باب «رفع العتب» كما يقول المشارقة في ظل حالة من التدني العام لابد من التيقظ لمخاطرها.

ما الذي يجعلنا نؤجل التظاهرات الثقافية المرجعية التي ارتبط بها إسم بلادنا ووسمت مشهدنا الثقافي ولها اشعاع إقليمي معلوم وهي من التقاليد التي تأسست عليها السياسات الكبرى في القطاع الثقافي في بلادنا؟
لماذا نفرّط بهذه السهولة في مدونة ثقافية مهمة ومنجز حقيقي تراكم على امتداد عقود وهو الذي أسس الوجه الحضاري الراقي لتونس؟
وهل توقفنا فعلا عن الإنجاز وعلينا فقط الآن الإقرار بحالة «العقم» التي تعيشها بلادنا ابداعيا وثقافيا وفنيا وفكريا؟
وهل هذا ما يفسر الثرثرة الجوفاء في المنابر الإعلامية التي لا جديد فيها ولا تعدو ان تكون مجرد عملية «تقطيع وترييش» على الملإ لجمهور فقد كل مظاهر الشغف؟
وهل هذا ما يفسر أيضا الاهتمام المبالغ فيه في الفضاء العام بمعناه الافتراضي والواقعي بموضوع توقيع أشعار غنائية صادرة في كتيب اجتمعت حوله شلة من الأصدقاء؟
ولماذا هذا الصمت الرهيب من النخب الاكاديمية والابداعية إزاء كل هذا الفراغ؟

إذن وبغض الطرف عن الإجابات المحتملة للأسئلة التي طرحناها يبدو المشهد الثقافي في تونس في حالة من الرثاثة التي لا تخطئها العين. وقد تم التدهور بشكل سريع جراء الإهمال وعدم الاكتراث بالفعل الثقافي الذي هو احد المرتكزات المهمة التي تتأسس عليها الحضارات وبها تبنى الدول.
هنا نحن امام أزمة مركّبة ومتداخلة الأبعاد يتقاطع فيها الثقافي مع الاجتماعي ومع الاقتصادي وحتى السياسي فرغم انتهاء الرقابة وغياب مقص الرقيب عن الابداع وهو ما كان في سياقات أخرى يقود الى ثورة ثقافية بالمعنى الحرفي للكلمة إلا ان الممارسات القميئة لم تتغير بل لعلها ازدادت وتناسلت.
والحقيقة ان المعركة الثقافية هي المعركة الأساسية التي لم يتم خوضها حتى الآن ولعلها كانت تكون القاطرة التي تجذب باقي القطاعات لو أحسن القائمون عليها بلورة قضاياها الحقيقية وأتقنوا حوكمة ازماتها المزمنة عبر سياسات جادة.
وغياب الاستراتيجيات الثقافية الكبرى يقودنا حتما الى الدور الموكول الى النخب سواء في علاقتها بالفاعلين السياسيين أو في ما يتعلق بإسهامها الإبداعي والفكري أو في علاقاتها التفاعلية مع المجتمع ومع القضايا المطروحة فيه ومن بينها قضية مكانة الثقافة.

وهنا علينا الإقرار مع القدر اللازم من التنسيب بأن هناك استقالة في صفوف العديد من افراد النخب التونسية الذين مضوا الى تأسيس مشاريعهم الفردية وآثر بعضهم الابتعاد واختيار مقعد المتفرج في حين انحسر الضوء عن الغالبية العظمى منهم لصالح فئة جديدة من المؤثرين والفاعلين. وهو ما يفسر تواتر ظواهر غريبة من قبيل الزوبعة التي تولد في فنجان. وهو ما يحذّرنا منه ألان دونو في كتاب نظام التفاهة وينبه من مغبة جعل الحمقى مشاهير.
ومثالنا على ذلك ان المنابر الإعلامية انشغلت طوال أسبوعين متتاليين تقريبا بخبر توقيع كتاب يضم أشعارا غنائية لفنان شعبي غادر السجن واستلهم من تجربته هذه النصوص.
ومن الطبيعي في هذه الظروف ان تعم الثرثرة الجوفاء نظرا لغياب الأطر الثقافية الجدية ولغياب التظاهرات الثقافية المرجعية التي كانت بمثابة حاضنة ليس للمبدعين فقط بل هي فضاء النقاش العام الجريء والتقدمي وهو ما جعل بلادنا في بعض المراحل منارة ثقافية…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

إلى مراكز النفوذ في الغرب وتحديدا فرنسا بعد أن سقطت أقنعتها: تونس ليست ملفا حقوقيا..!

من المعلوم ان علاقة تونس بالآخر الغربي متعددة الأبعاد والتقاطعات بين النخب الغربية والفرنس…