2024-02-14

الرئيس تدخّل في كل القطاعات تشخيصا وتفكيكا ونقدا.. ..وندعوه إلى إطلالة على واقع الثقافة وحال أهلها ومؤسساتها..

كثّف الرئيس قيس سعيد خلال الأشهر الأخيرة من تدخلاته في مختلف القطاعات إمّا بزياراته المباشرة الى المؤسسات والمنشآت العمومية وإمّا بدعوة وزرائه تباعا لتشخيص واقع القطاع الذي يشرفون على ادارته وقد تكلّم الرئيس في كل المجالات ولم يترك ملفا قطاعيا إلاّ وتحدث فيه تشخيصا ونقدا وتفكيكا جريئا لواقع يدرك جيدا تفاصيله..

تحدث في الاقتصاد والمالية وفي التخطيط والسياحة والفلاحة والتجهيز والاسكان وفي الرياضة وخساراتها وزار ملعبي المنزه وزويتن ووقف بنفسه على كمّ الفساد والاستهتار… توجه الى شركة الفولاذ والنقل والفسفاط ولم يترك تفصيلا واحدا في كل ما أثاره من ملفات قطاعية كما كانت له لقاءات مطولة مع وزرائه آخرها مع وزير الشباب والرياضة وتحدث معه في أدق التفاصيل المتعلقة بالقطاع. لكن ووسط كل هذا «الاهتمام العليّ» بشؤون الدولة والمجتمع لم يحدث ان سمعنا الرئيس وهو يتكلّم في الشأن الثقافي أو الفكري ما عدا اطلالاته الارشيفية على بعض الوثائق التاريخية من باب تنشيط الذاكرة أو تدخله المباشر أمس برفضه تأجيل الدورة الجديدة لمعرض تونس الدولي للكتاب وما عدا ذلك لم نلحظ اهتمامه بالثقافة وأهلها ومؤسساتها وما هي عليه من أحوال رثة.. ولا ندري مدى اهتمام الرئيس بالثقافة والفنّ وما المكانة التي يحظى بها القطاع ضمن السياسات العامة للدولة ولا ندري حقيقة أيضا إن كان الرئيس قيس سعيد يؤمن بما يسمى «دولة الثقافة» والمعرفة أي الدولة التي تضع امكانيات واستراتيجيات حتى تكون دولة منتجة بعقول ابنائها «دولة منتجة» تفتخر بمنجز مبدعيها وبتفوقهم وطنيا واقليميا ودوليا…

فالدولة الحديثة لا تفتخر «بالاسفلت» وإنما بمدى اتساع هامش الحريات والحقوق الممنوحة لأهل الفنّ وبمدى عبقرية ابنائها من المبدعين و«بعلوّ كعبهم» في المسرح وفي السنما وفي الفنون التشكيلية وفي الأدب بكل فروعه وفي المعرفة بكل نتاجاتها كما تفتخر بمدى سلاسة تشريعاتها في مجال الفنون والتي تُوضَعُ لا من أجل محاصرة الفنّ وأهله وإنما من أجل «اطلاق سراحه» وبالتالي تخليصه من «حرّاس المعبد القدامى» ومن «لوبيات النهب والفساد» الجاثمة على القطاع ومن كل أشكال البيروقراطية القاتلة التي «دمرت» أو لنقل عطلت كل امكانيات الانتقال من «ثقافة الدعم العشوائي» لكل من أعلن وفاءه وولاءه «للادارة» الى ثقافة الدعم الانتقائي الذي «يسند المشاريع» الحقيقية لجدّتها ويدعم كل ما هو مبتكر وجديد يقطع مع المعاودة والتكرار ولكل أشكال الرسكلة التي تنتج في الاخير نوعا من «الخردة المدعومة»… ونحن ـ هنا ـ لا ندين أحدا لا الوزارة ولا الوزيرة وإنما ندين سياسات قديمة ومهترئة ما تزال جاثمة على القطاع تتعامل مع الثقافة والفن على انها «حصص للترفيه» على المواطنين أو «للتفرهيد» على حدّ تعبير رئيس الحكومة الاسبق هشام المشيشي.
فكم من وزير مرّ على هذه الوزارة ما بعد الثورة.. ومن منهم ترك بصمة ضوء على جسدها المريض؟.

في البدء ـ وباسم الثورة وفي سنتها الاولى ـ دعا الوزير عزالدين باش شاوش الى هدم «مدينة الثقافة» وقد رأى فيها «مشروعا ستالينيا» وجب التصدي له «ثوريا» والحمد لله ان الرجل قد غادر الوزارة قبل ان يهدمها على رؤوس أهلها… ومن بعده جاء من أقام فيها «الصلاة في غير توقيتها» حيث امتدت اليها الأيادي الاخوانية فَأَخْوَنَتْهَا وَأَسْلَفَتْهَا» وأثارت الفتنة بين أهلها وخاصة فترة ما سمّي وقتها «بوزير العظمة» وينتمي لحكومة الترويكا… ثم جاء «وزير الساحات» الذي أهدر مال الوزارة في مشروع وهمي أطلق عليه اسم «ساحات الفنون والآداب» وهي ساحات وهمية تكلفت باهظا على المجموعة الوطنية ونفس الوزير أهلك قطاع المسرح بتعويم مؤسساته وتظاهراته المرجعية وذلك ببعث قرابة 24 مركزا للفنون الدرامية أي مركز بكل ولاية وكانت أيضا مؤسسات دون مشروع بل قُل مكاتب تحوّلت بعد ذلك الى عبء ثقيل وقد تم التخلّص منها ـ عشوائيا ـ باحالتها على المندوبيات الجهوية للثقافة ـ ونفس الوزير أيضا (وزير الساحات) تعمّد ـ باسم الثورة ـ تعويم المهرجانات المرجعية حيث حوّل «قرطاج» الى شعار لعدد كبير من الاحتفاليات الناشئة على غرار أيام قرطاج للكوريغرافيا وأيام قرطاج للرقص وقرطاج للموسيقى وقرطاج للغناء وغيرها بما ساهم في ترذيل التظاهرات الكبرى على غرار أيام قرطاج المسرحية والسنمائية…
ثم تعاقبت على الوزارة بعد ذلك أسماء لم تترك أثرا من بعدها وكانوا مجرد «وزراء مسيرين» أو وزراء لتصريف «ثكنة مكتظة» بالموظفين بمختلف الرتب ولا أحد من المتعاقبين عليها تقدّم بمشروع لاعادة بناء «الثكنة الثقافية» وتسمّى «وزارة» من باب المجاز ولا أحد طالب بمراجعة السياسات ويعود بعضها الى ستينات أو سبعينات ـ القرن الماضي ـ.
انظروا مثلا الى عمل اللجان في الوزارة وخاصة لجان الدعم والشراءات وصندوق التشجيع على الابداع وكيفية ادارته…
كيف تُدَار مدينة الثقافة التي تحوّلت الى قلعة مغلقة تستفيد من ريعها أقلية مقيمة على حساب أغلبية «مطرودة»… من يدير هذه القلعة وكيف تُدار وبأيّ سياسات…؟
انظروا كيف تحولت قرطاج السنمائية الى تظاهرة ثانوية في المنطقة وكانت مرجعا عربيا وافريقيا… وقد تأجلت دورتها الاخيرة لأسباب غير مقنعة…
انظروا كيف تحوّلت أيام قرطاج المسرحية الى مجرد «واجب اداري ثقيل» وهي التظاهرة التي كانت لا تضاهى شكلا ومحتوى في المنطقتين العربية والافريقية.
انظروا الصيف التونسي وكيف تحولت مهرجاناته الى فضاءات لتكديس «الخردة الفنية»…

انظروا حال معرض تونس الدولي للكتاب والذي كادت أن تتأجل دورته الجديدة لولا تدخل الرئيس الذي أعادها إلى موعدها الأصلي وهو معرض مرجعي بل هو معرض سيادي وعنوان من عناوين الحداثة الثقافية في تونس وتجمّعا من أكبر تجمعات دور النشر العربية اضافة الى كونه قضاءً معرفيا شاسعا يجمع الآداب والفنون في احتفالية سنوية ضخمة… كاد المعرض أن يؤجل والأكيد أنه ثمّة أطراف عديدة مستفيدة من هذا التأجيل لو حصل وخاصة دور النشر التي تسيطر على شارع بورقيبة منذ سنوات في معرض تجاري ممتد على نصف الشارع تقريبا… وفي المقابل يشهد معرض القاهرة الدولي للكتاب هذه السنة نقلة نوعية في مستوى التنظيم والمحتوى وفي عدد دور النشر العربية والاجنبية الحاضرة في الدورة…
نحن ـ هنا ـ في كل ما ـ ذكرنا ـ (وما لم نذكره من تفاصيل أكثر بكثير) لا ندين أحدا وإنما نحن بصدد السؤال عن مكانة الثقافة في «دولة قيس سعيد» وهل ان الرئيس يؤمن حقيقة «بدولة المعرفة والثقافة» أما ان المسألة لا تتعدى لديه فعل تسلية وترفيه وبان الوزارة إنما هي وزارة ثانوية ومجرد ديكور على واجهة القصبة… وهل يدرك الرئيس بأنه ـ كانت لتونس الريادة في مختلف المجالات الفنية في المسرح وفي السنما وبأن تونس هي التي قَدَحَت فكرة التظاهرات المرجعية فكانت البداية مع قرطاج السنمائية ثم المسرحية…

لقد عرفت تونس ما بعد «ثورتها» تحولات كبرى اجتماعية وسياسية كان من المفترض ان تدفع الى مراجعات عميقة في مستوى السياسة الثقافية التي راوحت مكانها بل هي حافظت على ما ورثته من المنظومات السياسية السابقة للثورة فلم تغيّر لا المقاربة ولا التشريعات اضافة الى عدم تمكن المتعاقبين على الوزارة من «انتاج مقاربات جديدة تخفف ـ على الأقل ـ من تعثرات القطاع في كل المجالات والذي شهد أيضا تهرّؤا كاملا للبنية التحتية اضافة الى ظهور «ممارسات عقابية» مرتبطة بسلوك الادارة الثقافية تجاه أهل الثقافة والفن فعدم ولائك لمنظومة المرحلة قد يجعلك من بين «المفروزين» المغضوب عليهم بحيث يتم حرمانك من كل اشكال الدعم..
وللاسف فان الثقافة اليوم بآدابها وفنونها انما تم التضييق عليها بحصرها داخل ذاك المربع القاتل ويتمثل في المهرجانات التي تحولت الى تظاهرات عشوائية يطغى عليها الطابع الاحتفالي وقد فرطت في خصوصياتها التي كانت تميزها بما حوّلها الى «أعراس صيفية» متشابهة تجتر نفس الاسماء والألوان.. ولا يمكن ـ في الواقع ـ الحديث عن مشروع ثقافي وطني «نابع من حوار ومن تشاورات بين الفاعلين الثقافيين والذي من شأنه ان يصنع صورة وهوية مخصوصة لهذا المشروع وانما نحن امام «ممارسات مزاجية» بصدد اجترار الصيغ القديمة بذات التشريعات القديمة في «وزارة بيروقراطية» ينقصها الابتكار ويعوزها الخيال وتعطلها «سياسات عامة» لا ترى في «الثقافة والفنون والآداب» مشروعا وطنيا يمكن التعويل عليه لبناء«الشخصية التونسية» وانما هو مجرد«أفعال» للترفيه والتسلية الم يكن اسمها «وزارة الثقافة والترفيه».

علينا ان نقرّ بوجود فجوة عميقة بين الادارة الثقافية والفاعلين الثقافيين في كل القطاعات بل ان «الادارة الثقافية» في حد ذاتها انما تعاني من مشكلات داخلية عميقة ومربكة ومن ممارسات قسمت هذه الادارة الى «موالين» و«معارضين» زائد تراكم الملفات القطاعية والعجز عن ايجاد حلول جذرية لها من ذلك ما يحصل من «عبث» في ملف مراكز الفنون الدرامية التي تم الحاقها مؤخرا بالمندوبيات الثقافية يعني مزيد التضييق عليها اداريا ثم تهميشها الى ان تتحول الى «مراكز متروكة» اضافة الى ملفات اخرى عالقة لا يمكن حلها بمجرد توظيف «رئيس ديوان» جديد ولا بسياسات مرتجلة لا استشارات فيها ولا حوار ولا استئناسا بآراء وخبرات أهل الذكر وانما بسياسات وبرؤية واضحة لمشروع وطني ينتمي بالضرورة لطبيعة المرحلة بكل متغيراتها الوطنية والاقليمية والدولية بما ينتج هوية ثقافية وطنية صلبة مفتوحة على مختلف الهويات الثقافية ولا يضيرها الأخذ منها والاستئناس بنجاحاتها في حركة تثاقف نوافذه مفتوحة على حداثات العالم..
المشكل ان «الثقافة التونسية» بما هي قيم وممارسات إبداعية انما هي مبنية على «القيل والقال» وعلى ما يثار من قضايا فارغةمن حول لجان الدعم والشراءات والزبونية والولاءات والمهرجانات وسياسة الفرز (هذا معي وهذا ضدي) وغيرها من المظاهر المزاجية التي لا يمكن أن تؤسس لغير «ثقافة الخردة».

لهذا كلّه ندعو رئيس الجمهورية قيس سعيد الى اطلالة جدية على قطاع الثقافة والفنون تماما كما فعل مع باقي القطاعات الحيوية حتى يكتشف ـ بنفسه ـ الحال الرثّة لهذا القطاع ولأهله المتعبين…
فالثقافة صناعة ومجال استثماري ضخم بمردودية عالية لا تقل أهمية عن السياحة والفلاحة بل هي صناعة ثقيلة لو يدري أهل القرار وصنّاعه…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

«مجلس أعلى للثقافة».. من أجل إعادة البناء..!

 من أكثر القطاعات التي تحتاج الى «حرب تحرير وتطهير» كبرى، قطاع الثقافة و«ثكنته البيروقراطي…