في الشأن التربوي : كيف ترسّخ المدرسة قيم المواطنة المسؤولة لدى الناشئة ؟
يقع مرفق التعليم في صدارة اهتمامات الأمم، لأن المعرفة هي المحرك الأساسي للتنمية في كل المجتمعات إذ تستبق المدرسة حاجيات المجتمع التنموية وتوفرها . لذلك تراهن المجتمعات الإنسانية على التعليم لتحقيق أهدافها المختلفة فكرية وثقافية واقتصادية واجتماعية ..
ومن بين تلك الأهداف ترسيخ قيم المواطنة المسؤولة لدى الناشئة في عالم متغير وكثير الأزمات لإنشاء جيل يكون أبناؤه وبناته واعين بكل ما يجري حولهم في الواقع ، وقادرين على التعامل معه بمسؤولية مجتمعية مواطنية سلاحهم في ذلك التكوين الذي تلقوه في المدرسة .
المدرسة فضاء التنشئة
تهدف التربية حسب ما جاء في الفصل 3 من القانون التوجيهي 2002 إلى «تنشئة التلاميذ على الوفاء لتونس والولاء لها وعلى حب الوطن» . لذلك فإن المدرسة فضاء للتنشئة الاجتماعية المواطنية للناشئة ، ففيها يكتسبون تجارب حياتية جديدة في ممارستهم حياة مشتركة مع بعضهم البعض ومع المتدخلين في المدرسة . وهي بذلك فضاء للتدرب على العيش مع الآخرين والتعاون معهم في علاقة تسمو نحو التضامن وإعداد الناشئة إلى دورهم كمواطنين في المجتمع . وضمن هذه المقاربة تعمل المدرسة على معالجة كل المشاكل الناتجة عن التفاعل بين التلاميذ فيها أو تفاعلهم مع المعرفة كما تنمي فيهم ممارسة الحقوق والواجبات في الحياة المشتركة وتحمل المسؤولية في تصرفاتهم وفي سلوكاتهم الاجتماعية فيها وترافق تعاملهم المسؤول مع البيئة المدرسية ومدى احترامهم قواعدها ومقاومة التلوث فيها بأنواعه المختلفة إن كان التلوث ماديا أو معنويا كالعنف باستعمال الكلام البذيء والصخب والسلوك غير الحضاري .. فكيف نعزز المواطنة المسؤولة في المدرسة لنخرج جيلا متشبعا بها يستعملها بكل تلقائية في المجتمع في المستقبل ؟
المواطنة المسؤولة
إن المواطن المسؤول هو ذلك الذي يشارك بصورة فاعلة في الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية في بلاده مستندا إلى قيم مواطنية تلقاها في مسيرته التعليمية أساسها إطار قيمي قائم على مبادئ حرية التفكير والانفتاح على الآخر والحس المدني القوي والتفكير النقدي والتضامن والمسؤولية . ولبناء هذا المواطن المسؤول ينتظر من المدرسة تزويده بما يمكنه من استيعاب تلك القيم والتشبع بها وترسيخها لديه . وهو ما يمكننا من مواطن واع بحقوقه ملتزم بواجباته متشبث بهويته وثوابته الوطنية ويتحقق ذلك بتنمية مهارات الناشئة وكفاياتهم حتى تتأقلم مع مستجدات الحياة المستقبلية التي تنتظرهم . ويمكن أن تكون البرامج المدرسية والوسائل التعليمية والتجربة المدرسية هي الوعاء لذلك .
إن من بين ما ينمّي المواطنة المسؤولة لدى الناشئة استعمال الأساليب النشيطة في التدريس لأن استعمال مقاربة التعليم النشط في شرح درس معين لمجموعة من التلاميذ يؤدي إلى الخروج باستنتاجات مفهومة ومستوعبة من أغلب أفراد المجموعة لأنها مقاربة تقوم على المشاركة والتعاون لحل وضعيات بيداغوجية معينة أو دراسة حالات مختارة مرتبطة بموضوع معين في الدرس. وينمى ذلك النقاش والحوار بين المشاركين لتحقيق الهدف من الدرس . وهو ما يكرس قيم المشاركة والتعاون مع الآخر للوصول إلى الحلول الوجيهة لأهم الإشكالات المطروحة وترسيخ قيم التضامن والتسامح بين الناشئة وليس التنافس .
كما يمكن أن نضمن في البرامج المدرسية محتويات وأنشطة تساعد على تكوين الناشئة على قيم النزاهة والصدق تجاه المجتمع ، والولاء للوطن، وعدم الانخراط في أي أفعال تهدد مصالح الوطن أو تؤثر عليها سلبا ،وعلى تكريس الإيمان بقيمة العمل لدى الناشئة ، وتربيتهم على حبه والتفاني فيه والتطوع والمشاركة في الحياة العامة، من ذلك توجيههم للمشاركة في الحياة السياسية وخاصة المشاركة في الانتخابات لأهمية أصواتهم التي تجعل المواطن مسؤولا ومنخرطا ومشاركا في كل ما يحقق الازدهار لوطنه ولأفراد شعبه ويساعد على نمائه . وهذا يفترض الاعتراف المتبادل بين أفراد المجتمع فيما بينهم كل في مركزه ودوره في المجتمع في إطار المساواة والعدالة والإنصاف و الاحترام المتبادل والكرامة الإنسانية مما يفضي على المجتمع التناسق المطلوب .
ومن المقاربات التي تنمي المواطنة المسؤولة وترسخ المشاركة المدنية لدى التلميذ توظيف تجربته المدرسية الشخصية مثل تشريكه في اتخاذ القرار في مدرسته في كل ما يخصه وذلك مثلا من خلال بعث مجلس تلمذي منتخب في المدرسة يكون ذلك دوره ويتولى تنظيم اجتماعلت لمناقشة مسائل تهمهم في حياتهم المدرسية ويتم اتخاذ القرارات جماعيا بالتصويت على أن يتم تكوين أعضاء المجلس في طريقة تنظيم تلك الاجتماعات وتسييرها. كما يتولى المجلس مرافقة التلاميذ الذين يقعون في أخطاء مخلة بمقاربة العيش معا وتوعيتهم . ويقدم المجلس مقترحات للإدارة لتحسين وضعية التلاميذ في الفضاء المدرسي أو حل إشكالات تتعلق بسير العمل في المدرسة أو في علاقتها بالأولياء والمجتمع المدني…. ومثل هذه الأنشطة تذكي لدى الناشئة ملكة النقد والثقة بالنفس وتطور روح المبادرة لديهم مما يساعدهم على تحمل المسؤولية المجتمعية في المستقبل .
لذلك وحتى يصبح التلميذ مواطنا مسؤولا في المستقبل لا بد أن تمكنه المدرسة من فهم قواعد العيش معا في المجتمع وممارستها بقبول الاختلاف وقبول الآخر والإصغاء إليه واحترام آرائه وأفكاره ومواقفه. وكذلك تطوير علاقة المدرسة بمحيطها وانصهارها في مجتمعها وتقوية تواصلها مع كافة المتدخلين في الشأن التربوي وضمان انخراطهم طوعا فيه بالاستفادة مما يوفره المحيط الثقافي والاجتماعي والاقتصادي والإعلامي . كل ذلك من خلال أنشطة تنجز في المدرسة لتحقيق هدف إعداد مواطن مسؤول في المستقبل .
(❊)باحث وخبير في الشأن التربوي
في الشأن التربوي : تربية الناشئة على المهارات أحد تحدّيات المدرسة
من بين التحديات الحياتية التي تواجه المجتمع الإنساني اليوم، والتي على المدرسة رفعها في كل…