من أعقد المسائل التي واجهت تونس بعيد أحداث 14 جانفي 2011 ظاهرة القطاعية والتي نعني بها الهبّة الجماعية التي تحدث من قبل أبناء القطاع الواحد عندما يتعلق الأمر بعقوبة تصدر على أحدهم لجرم ارتكبه او لشبهة ما تلاحقه حتى وإن لم تكن ذات صلة بمجال عمله بشكل مباشر على الأقل. ولا علاقة لهذه الظاهرة حقيقة بالعمل النقابي في عمقه وأبعاده المعلومة رغم انها غالبا ما تتخفى به.
فالهياكل النقابية لها مهمة غاياتها نبيلة وهي حماية النقابيين والدفاع عنهم من الاستغلال والظلم والحيف الذي قد يتعرضون له من أرباب العمل لضمان مناخات سليمة في المجال المهني ولضمان كرامة منظوريها وحقوقهم المادية والمعنوية.
أما القطاعية التي نتحدث عليها فهي ذاك التحرك الجماعي الآلي الذي يعيد الى الأذهان سلوك بعض المجتمعات القبلية والذي يفتقر الى العقلنة وآلية التنسيب والى تحميل الفرد لمسؤوليته جراء أي فعل يقوم به سواء كان داخل المجتمع عموما أو اثناء ممارسته للمهنة التي يقوم بها.
وتهدف هذه القطاعية الى منح بعض المهن او القطاعات حصانة خاصة تجعلها فوق المساءلة ولا تخضع لطائلة القانون الذي ينطبق حتميا على كل المواطنين مهما كانت الطبقة او الفئة او القطاع الذي ينتمون اليه باعتبارهم مواطنين مثل غيرهم لهم ذات الحقوق والواجبات.
ولعل هذه الظاهرة أحد أبرز الروافد التي غذت موضوع الإفلات من العقاب في بلادنا وخلقت ما يعرف بمجتمع «اللامحاسبة» حيث يرتع فيه الفاسدون من كل لون وجنس متحصنين بجلباب القطاعية الذي يرفع كقميص عثمان عندما تقتضي الحاجة لإخفاء أخطاء او خطايا بعض المنتمين الى هذه المهنة او تلك واصباغ ثوب من الطهورية او القداسة عليهم.
طبعا هنا يقتضي الإنصاف ان ننطلق من قرينة البراءة دائما والقول بأن كل متهم يظل بريئا حتى تثبت ادانته في محاكمة فيها كل الضمانات لتكون عادلة. لكن هذا لا يعني اطلاقا ومهما كانت الظروف ان لا نحاكم هذا المواطن الذي تحوم حوله شبهة جدية في مسألة ما لمجرد انه على سبيل الذكر لا الحصر صيدلي أو طبيب أو صحفي أو أستاذ أو معلم أو محام أو فنان … والقائمة طويلة.
فعلينا ان نتذكر ان هناك فنان في بلد عربي اصبح إرهابيا وحمل السلاح في وجه جيش بلاده فهل حدثت هجمة فنية قطاعية لحمايته من الملاحقة ؟ قطعا لا فأن تكون مبدعا في الغناء وصاحب سجل فني ممتاز وذا شعبية كبيرة لا يعني مطلقا ان تفلت من عقاب تستحقه بالقانون بعد ان تلطخت يداك بالدم.
هذا المثل القصووي ذهبنا اليه للتأكيد على الموضوع من زاوية التجارب المقارنة.
والحقيقة ان ما قادنا الى الخوض في هذه المسألة هو التنديد الذي أطلقته نقابة الصيادلة ببعض الايقافات التي شملت منظوريها وبرّأتهم قبل ان يقول القضاء كلمته الأخيرة في أغلبهم.
وأعاد هذا التنديد الى أذهاننا شبح تلك الفوضى القطاعية التي عشناها على امتداد ما يربو عن عقد من الزمن والتي بلغت ذروتها كما نذكر جميعا في قطاع التعليم وهو ما كبّدنا خسائر جمة مادية مباشرة على مستوى مهارات التلاميذ وتحصيلهم العلمي ومعنويا على مستوى السقوط المدوي للكثير من الرمزيات في المجال التربوي بالتحديد. فقد عشنا قطاعية بغيضة خاصة مع تغول نقابة التعليم الثانوي التي جعلت من التلاميذ رهائن في اكثر من مناسبة. وبات من قبيل التغريد خارج السرب نقد هذا الهيكل واصبح التنديد بالقطاعية من قبيل «الخيانة» التي لا تغتفر. ويتم استدعاء كل السجل الرمزي لمهنة المربي للشحن والمزايدة. وغالبا ما يتم أيضا التحريض على كل من يعارض هذا السلوك واستباحته على مواقع التواصل الاجتماعي في عملية «سحل جماعي» يقوم بها سكان الفضاء الافتراضي وهم في غاية الاستمتاع كما تستلذ القبائل البدائية حفلات الشواء.
والحقيقة أن هذه الظاهرة التي تغذت من حالات الارتباك نابعة من سلوك استعلائي لبعض القطاعات بالتحديد التي ترى نفسها من قبيل المواطن درجة أولى الذي لا يخضع لعقاب ولا سابق حساب مهما كان الفعل الذي يأتي به.
وينسى الجميع هنا الطبيعة البشرية المجبولة على الخطإ والتي نتساوى فيها جميعا فيحدث على سبيل المثال وليس الحصر ان تجد طبيبا برتبة تاجر مخدرات وهو ما حدث في اكثر من مناسبة وتحت اكثر من سماء واخرها في بلادنا في الأسبوع الماضي عندما تم القبض على مجموعة تتاجر بهذه السموم في احدى جهات الجمهورية يتزعمها «دكتور» يفترض انه يقوم بمهمة نبيلة.
أما الشماعة التي يتم تعليق كل شيء عليها فهي القول بأن هذا القطاع مستهدف وهي العبارة التي رددتها نقابة الصيادلة أيضا في تبرئة لجميع منظوريها. مع العلم ان الجريمة فردية وكذلك العقاب وكل ملف له خصوصيته وينظر أمام القضاء حالة بحالة وليس في الأمر استهداف بقدر ما هو محاولة لتنقية هذا القطاع وغيره من القطاعات من كل الفاسدين. وهو امر محمود في المطلق أما إذا حدث خطأ أو ظلم بيّن فإن التظلم يكون مشروعا في هذه الحالة.
أما الإدانة المبدئية للتتبع ورفض الملاحقة القانونية من أساسها فهي حقا الخطأ الكبير الذي وقعنا فيه منذ سنوات ودفعنا ثمنه باهظا وآن الأوان ان نتوقف عن ممارسة هذه القطاعية البغيضة.
مرفق القضاء حجر الأساس في بناء الدولة ومؤسساتها : ..والعدل أساس العمران..
هل نحتاج الى استحضار مقولة علاّمتنا الكبير عبد الرحمان بن خلدون: «العدل أساس العمران» للت…