لم يتردد الرئيس قيس سعيد في كلمته بمناسبة افتتاح أشغال قمّة ايطاليا ـ افريقيا في تجاوز «جدول الأعمال» المبرمج مسبقا ليذكّر أوروبا في «معقلها» بالجريمة الصهيونية في غزّة وليدين كل الذين تواطؤوا مع الجريمة معبّرا عن أسفه من عدم إدراج «الحق الفلسطيني» في جدول الأعمال وقد جاءت الكلمة متماهية مع الموقف التونسي الرسمي والشعبي ومتماهية ـ أيضا ـ مع موقف دول القارّة الافريقية من جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها دولة الاحتلال في حق الفلسطينيين وانتصارا لجنوب افريقيا التي تقدمت بقضية ضد الاحتلال لدى محكمة العدل الدولية..

كما أكد الرئيس في قمة ايطاليا ـ افريقيا على شرط «النديّة» في التعامل بين الشمال والجنوب وأن القارة الافريقية لن تكون تلك القاطرة المجرورة بل قائدا شريكا في هذه القاطرة وهي صورة تعكس وعي الديبلوماسية التونسية وادراكها بأن «التبعية» والقبول بالادوار الثانوية في العلاقات الدولية لن يخلف غير «المذلّة» لشعوب القارة وبالتالي استمرار هيمنة العقل الأوروبي الاستعماري الذي نهب وما يزال ثروات القارة على امتداد أجيال وعقود وهو ما أشار اليه الرئيس قيس سعيد في أكثر من سياق بدعوته إلى ضرورة «جبر الضرر» في ما تعرضت له افريقيا المستعمرة على امتداد العقود الماضية.. وجبر الضرر لن يكون ماديا في مثل هذه السياقات وإنما بإعادة بناء العلاقات بين الشمال والجنوب على أساس ندّي يراعي السيادات الوطنية ولا يتدخل في شؤونها ويقوم بالاساس على المصالح المتبادلة دون إذلال أو منّة وهو ما تسعى اليه الديبلوماسية التونسية تماما كما ترسّخ في خطاب الرئيس قيس سعيد الذي يقود الديبلوماسية بخطاب غير مألوف في «المحافل الدولية» وقد نزع عنه «قفازات الحرير الناعم» ليكون مكشوفا ومتجاوزا لما يسمى في مثل هذه «المحافل» «جدول أعمال» أي ما هو مدرج من قضايا وعناوين يتم اعدادها مسبقا بحيث لا يمكن ـ ديبلوماسيا ـ إغفالها أو تجاوزها أو تبديلها بقضايا من باب «عفو الخاطر» أي مرتجلة وغير مدرجة…

هي ديبلوماسية متماهية مع «خطاب السيادة» الذي يتبناه الرئيس ويدافع عنه وينظّر له ويعتبره «خطا أحمر» لا يمكن الاقتراب منه أو المساس به وهي أيضا ديبلوماسية متماهية مع مفهوم قيس سعيد للعلاقات الدولية وهو الذي يدعو الى اعادة انتاجها بشروط المرحلة وبحسب ما يحدث من تبدلات عميقة في مستوى هذه العلاقات على المستويين الاقليمي والدولي خاصة مع بداية تآكل «القوى العظمى» المورّطة في حروب اقليمية طاحنة على غرار روسيا المورطة في اوكرانيا والتي استدرجت ـ بدورها ـ الولايات المتحدة الامريكية ومن ورائها دول الاتحاد الاوروبي.. ما اسميناه في ورقة سابقة بحركة «التدمير الذاتي» الذي يسبق تفكك «القوى العظمى» والتي تخوض حروبا عشوائية مدمرة لاقتصادياتها ولشعوبها.
الرئيس قيس سعيد يقود الديبلوماسية التونسية الجديدة بهذا الوعي الذي يدرك ان العالم مقدم على تبدّلات عميقة وان ما يسمى بالقوى العظمى انما هي مقدمة على «هشاشة عظمى» وبأن العالم القديم المبني على ثنائية القوي والضعيف لن يستمر طويلا وان البشرية بصدد التهيؤ لتبدلات جيوسياسية كبرى وعميقة زائد قيام تكتلات اقتصادية ومالية ضخمة ستنهي كل التوازنات الاقتصادية التقليدية وكل المعسكرات التي افرزتها الحرب العالمية الثانية بما في ذلك المنظمات الاممية وعلى رأسها مجلس الامن والذي لن يستمر بدوره تحت سيطرة المعسكرين الامريكي الاوروبي من جهة والصيني الروسي في الجهة المقابلة.

تشهد البشرية اليوم بداية تآكل العالم القديم بكل مؤسساته وبكل نظريات الهيمنة الاقتصادية والعسكرية ولئن تأخر العالم الجديد عن الظهور فإن ملامحه قد بدأت بالاعلان عن نفسها من خلال «حروب التدمير الذاتي» التي تشنها «القوى العظمى» وهي ـ كما اشرنا ـ بمثابة اعلان تفكك لوجودها الذي يتجلّى أيضا من خلال هذا الوعي الجديد الرافض لكل اشكال العسف والاضطهاد والذي أعلن عن نفسه في شوارع الغضب بأوروبا وأمريكا تنديدا بجريمة الابادة في غزّة والتي أسقطت كل الزيف الذي روّجت له فرنسا الديمقراطية وحقوق الانسان وأمريكا الحريات والمساواة كما أسقطت كل المواثيق الدولية وفضحت حقيقة الهيمنات الاستعمارية القديمة التي تتحكم في مصائر الشعوب وفق «آليات فرز» عنصري استعماري لم يعد ممكنا استمراره..!
تونس تتحرك ـ ديبلوماسيا ـ بهذا الوعي الذي يؤكد على سيادة «الدولة الوطنية» ويسعى الى مصلحتها من خلال ارساء شراكات جديدة تقوم أساسا على التبادل الندّي للمصلحة المشتركة وهو تبادل لا إذلال ولا منّة فيه وإنّما هو مرتهن بشروط العلاقات الدولية في تبادلاتها المصلحية وأهمّها على الاطلاق «التعامل الندّي» لا التعامل بعقلية «المستعمر القديم» الذي لم يتخلص من عنجهيته ومن نزوعه الاستعماري على غرار فرنسا ـ مثلا ـ والتي ما تزال تتصرّف مع عدد من الدول الافريقية على أنها «مقيم دائم» وهو ما دفع الى طردها من أكثر من دولة افريقية بسبب استعلائها الاستعماري…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

ذكرى الجمهورية بين «واقعتين»..!

يحتفل التونسيون اليوم بالذكرى 67 لعيد الجمهورية الموافق لـ25 جويلية 1957وهي ذكرى عزيزة على…