تطبّعت تونس بطبائع لا عهد لنا بها. وتطبّع أهلها بما لم يكن من طبائعهم وتحوّلوا الى ما يشبه «القطيع المتنمّر» والذي تقوده الأهواء والمزاجات.
لقد عرفت السنوات الأخيرة تحوّلات عميقة في شخصية التونسي فهو سريع الانفعال والاشتعال… عاطفي جدا وحقود يحبّ ويتشفى ويكره في ذات اللحظة… ينهى عن المنكر ويأتيه… وتنطبق عليه هنا مقولة «يصلّي مع علي ويسكر مع معاوية» يصوم شهر رمضان نهارا ويمضي ليله في لعب القمار… لا ينتج وإن أنتج فإنه يبدع في اعادة انتاج الآخرين… انقيادي ولا يمكن الاطمئنان اليه بحيث يمكن مخادعته بسهولة ودفعه في أي اتجاه وكل ما يصدر عنه مجرّد انفعالات بلا محتوى يمكن ان تتبدّل مع أي لحظة مزاجية أو انتهازية… و«أفكاره» مجرد ضوضاء صوتية بلا محتوى حقيقي…
التونسيون يجمعهم «الطبل والمزمار» ويمكن تفريقهم بنفس «الطبل وبنفس المزمار» وما يسم عقل التونسي وتفكيره هو أنه عقل غير نقدي بل هو عقل مزاجي مصلحي وانتهازي تحركه رغباته الشخصية وحماسته لأي فكرة هي بحجم ما سيغنمه منها… وفكرة الانتماء للوطن ـ مثلا ـ لا تعني له شيئا ما لم تحقق له امتيازا أو جاها أو مالا… إنْ تصدَّق بشيء من مالهِ استعرضه وإن صلّى صلاة استعرضها… وإن غنم غنيمة أخفاها… وينظر باستمرار الى موائد الآخرين ولا يتردّد في الاستيلاء على ما عليها…

مهزومون في علاقاتهم الشخصية والأسرية… مهزومون في علاقتهم بقضايا الشأن العام ومهزومون في علاقتهم بيومهم المأساوي المتعب ومهزومون في علاقتهم بأرزاقهم ومهزومون في علاقتهم بقيم الديمقراطية وبالحقوق والحريات الفردية والعامة ولا يضيرهم الاختناق ولا تضيرهم الاقفال التي تشد الألسن حتى لا تتكلّم بارتياح والتي تشدّ العقل حتى لا ينتج بسخاء… لا شيء يضيرهم ـ في الواقع ـ وهزيمتهم الشخصية تتحوّل الى عقد وأمراض نفسية تعلن عن نفسها في شوارع الفوضى والجريمة والانحطاط وتتجلى في «اللغة الحيّة» التي يتقنها التونسيون وهي لديهم «قصائد غزل» في شوارع القبح..
لا مغالاة في ما نقول وكلّنا يدرك التحولات العميقة التي ضربت الشخصية التونسية خلال العقد الأخير ما بعد الثورة وقد تحولت الى شخصية شديدة الاشتعال ـ كما اشرنا ـ ولا تتردد في هتك اعراض الناس وبلا حدود فما الذي حدث..؟ وما اسباب هذا «التحوّل ؟
هذه أسئلة بامكان علماء الاجتماع ـ ان وجدوا ـ ان يجيبوا عنها بما انها تستدعي «فحصا سريريا» عميقا لتفسير كل الامراض التي اشرنا اليها..

هذا الكلام موجه الى فئة معينة من التونسيين وفيه توصيف لسلوكهم الارعن ولأنفعالاتهم التي عانقت الانحطاط اول أمس في تهجمهم على مدرب الفريق الوطني جلال القادري بعد الأداء المذلّ في آخر مقابلة له امام جنوب افريقيا والذي أنهى مشاركة تونس في هذه المسابقة الكروية الافريقية».
مع التذكير ان جلال القادري مواطن تونسي له زوجة وأبناء وأهل وعائلة ممتدة في الجنوب التونسي… وهذا كل ما يهمّنا من الشخص وما تبقى في علاقة بكرة القدم وبالكفاءة الرياضية وبالخطط الكروية فهو من اختصاص أهل الرياضة ونقادها وهم المؤهلون للاجابة عن اسباب الهزيمة والفشل الذي أحبط التونسيين المحبطين بطبيعتهم وقد انتظروا لحظة انتصار للخروج ولو مؤقتا من حالة الاحباط العام.. لكن ذلك لم يحدث ما يفسر ردود الافعال المشينة بعد ذلك..
من حق التونسيين ان يغضبوا وليس من حقهم هتك عرض الرجل.. من حقهم ان يصرخوا بصوت عال وان يطالبو باقالته ـ فورا ـ وليس من حقهم شتم عائلته وزوجته وأبنائه ووالديه وكل امتداده ـ العائلي.
من حقّهم التعبير عن استيائهم من الفشل وليس من حقهم «التمثيل» به بقصفه وعائلته بكل تلك اللغة الحيّة من قاموس الشوارع القبيحة.
لقد انهزمنا بل فشلنا فشلا ذريعا كما فشل الآخرون.. وسيرحل المتسبّبون في هذا الفشل «بالتي هي أحسن» ومن تلقاء أنفسهم.. وتلك «عادة تونسية» ستتكرّر باستمرار لكن دون إذلال لمن فشل ودون هتك عرضه وعرض أهله وذويه كما فعلها التونسيون أول أمس على الفايسبوك وفي الملعب عند مغادرة الفريق.

فشل القادري اضافة الى عدم الكفاءة كما يقولون هو أيضا بسبب فشل السياسات العامّة في المجال الرياضي القائمة على الصداقات وعلى العلاقات الشخصية وعلى الولاءات لهذا المسؤول أو ذاك… سياسة لوبيات وتكتلات ضيّقة تدير المجال الرياضي والكروي بشكل خاص بمنطق الغنيمة وبعقلية انتهازية تدير مصالح شخصية ولا تدير قطاعا بأكمله في حاجة الى عقل قيادي يؤمن بفكرة الانتماء لهذا البلد…
ما حدث لجلال القادري من تنمّر وصل الى حدّ هتك الأعراض إنّما يعكس ضحالة «الشخصية التونسية» بعد «تحوّلها المبارك» خلال السنوات العشر الأخيرة… وهي ذات «الشخصية» التي كانت سترفع القادري على الأعناق وستحوّله الى أسطورة والى رجل الكفاءة العالية لو تمّ تسجيل هدف واحد صدفة وعن طريق الخطإ.. مثلا..
لم يخض التونسيون حربا واحدة حتى نرى فشلهم أو انتصارهم بوضوح.. نحن ـ فقط ـ نعرف حجم «تنمّرهم» على الآخرين ومدى انحطاط لغتهم حين يتعلق الأمر بسقوط ما حتى وإن كان سقوطا متوقعا وغير مفاجئ…
نقول هذا من باب الدفاع عن جلال القادري في محنته المضاعفة… محنة الفشل ومحنة التنمّر… وقد اجتمعت من حوله كل «سكاكين التنمّر والأذى لشخصه ولعائلته…» نحن مع النقد ومع المحاسبة ومع الاقالة وما عدا ذلك فثمّة قوانين ومراسيم تحمي الرجل وعائلته من كل أشكال التنمّر..
نحن تونسيون.. وصرنا تونسيين جدّا وقد تطبعنا بطبائع لا عهد لنا بها…!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

ذكرى الجمهورية بين «واقعتين»..!

يحتفل التونسيون اليوم بالذكرى 67 لعيد الجمهورية الموافق لـ25 جويلية 1957وهي ذكرى عزيزة على…