2024-01-25

يبني الشخصيّة مثلما يبني العصفور عشّه من الداخل الممثل محمد شعبان، عن «آخر البحر» للفاضل الجعايبي: هذه هي فاجعتنا : ضياع الجزّة الذهبيّة وأفولُ الأحلام التونسية

أبعد من صنعة الممثّل، يبني محمد شعبان شخصياته من الداخل، باقتدار وبمقدار، مثلما يبني العصفور عشّه من الداخل وعلى المقاس، كما يقول في هذا الحوار. يسع العشّ العصفور. يسع شعبان الشخصية التي يؤدّيها؛ وتتّسع معه. ولعلّ ما يجعل منه ممثلا هائلا، سيّدا من سادة الخشبة، هو الوجْدُ. الوجْدُ بالمسرح، بحثا عن اشراقات، عن لحظات الشعر الكبرى.
هنا في هذا الحوار يتحدّث محمد عن دوره “حمادي” ( المعادل لجازون) في مسرحية الفاضل الجعايبي الجديدة:“ آخر البحر” المقتبسة عن تراجيديا “ميديا” لأوريبيد، التي تتحوّل فيها “ميديا” إلى “عاتقة اليمنية” ، والجزة الذهبية إلى مخطوط قرآني نادر و تونس الحديثة إلى كورنثا معاصرة تحدث فيها الفاجعة، دون آلهة شمس نطير نحوها، كأنّ آخر البحر يفتح على أوّل الهاوية.
<النص الذي وقع الاشتغال عليه هو فاجعة ميديا للشاعر التراجيدي أوريبيد. وقعت معالجته في الأسطورة كما وردت في المتون الاغريقية ؛ في الأرغونوتيكا لأبولينوس الروديسي.. وفي أعمال مسرحية أخرى قديما وحديثا، مثل ميديا سناك، ميديا هاينر ميلر، وميديا جون أنوي. هذه هي منابع الخرافة.
تتحدّث الخرافة الأساسية عن رحلة جازون، البطل الأسطوري بحثا عن الجزّة الذهبية. الجزّة الذهبية هي كناية عن امتلاك القوى النارية والتي تنضوي تحت علامة أراس ، إله الحرب والانتقام. ركب جازون البحر مع مجموعة من أتباعه على سفينة أرغوس، متجها نحو أرض كولشيدا، موطن البرابرة. ولم يتمكن من الحصول على القطعة المقدسة لولا مساعدة ابنة ملك كولشيدا ميديا، التي ما إن وقعت عيناها عليه حتى شغفها حبّا. ذلّلت ميديا الخبيرة بفنون السحر، جميع المصاعب التي تحول بين جازون وبين الجزّة ضائعة الصيت وموضوع الرغبة. ولم تتردّد في اقتراف القتل؛ قتل التنين و أخيها، بعدما انعقد بينهما من عهود غليظة على الوفاء والاخلاص. وفعلا تمكّن جازون من الحصول على مبتغاه ورافق ميديا إلى كورنثا. وتزوّج بها وأنجب منها طفلين. ومع مرور الزمن، ونظرا لهوسه بالسلطة والجاه يهجرها ويتقرّب من ملك كورنثا كريون ويتزوّج بابنته كرييوسا وينقض العهود. ترفض ميديا هذا المصير المذلّ ولا تقبل به. وتقرّر الانتقام أولا من غريمتها وأبيها الملك ثم من زوجها السابق جازون عبر تصفية ابنيهما ذبحا.
تيمات الأسطورة هي: الحب والسلطة والغربة. وثنائية التوحش والتحضر؛ يوناني إزاء بربرية. السياسي؛ المدني ونقيضه الفوضى؛ التوحّش. والصراع الأزلي بين المذكر والمؤنث؛ بين المرأة والأم، وبين الغريب والكائن البلدي.
ترمز شخصية ميديا على مستوى المرادف الطبيعي إلى عالم النبات. ليس النبات المدجّن المفلوح؛ الذي يتدخّل البشر فيه عبر فنون الزراعة والبستنة، بل نبات البراري والأحراش. وبعد اقترافها لجريمة قتل الأبناء، تغادر الأرض صحبة جثتي ابنيها المضرجة بالدماء نحو الشمس على عربة تجرّها الأفاعي المجنّحة.
هناك جملة قيلت في أشعار الخيام تعبّر جيدا عن هذه المغادرة:“ كنت نسرا في عالم السر لأمسي عن الحضيض رفيعا فلما لم أجد للسر أهلا عدت من حيث قد أتيت سريعا”. وكأنّها هبطت من مقامها الرفيع إلى عالم التجربة المدنية ولم تستطع الاندماج.
في نهاية فاجعة ميديا لأوريبيد تغادر قاتلة أبنائها الأرض نحو السماء رفضا للمثول أمام عدالة البشر. هنا في هذا المشروع ، “آخر البحر”، تهاجر أسطورة ميديا وجازون جغرافيا وتاريخيا من بلاد الاغريق في العصر الكلاسيكي إلى بلاد العرب، الان وهنا، أي في المسافة الفاصلة بين مضيق باب المندب ومضيق صقلية انطلاقا من الفرضية التالية: ماذا لو امتنعت ميديا عن المغادرة ومثلت أمام العدالة وواجهت المؤسسات ؟
في أثر أوريبيد، توجد مؤسسات، وهناك وجهات نظر وأحكام، يعني أحكام مبثوثة في أناشيد الجوقة وبعض الشخصيات منهم المربّية، لكن ترجمة الأثر إلى عصر آخر وبيئة أخرى استدعت أن تقف ميديا أمام منظومات حديثة وجديدة هي؛ القضاء، المحاماة، وعلم النفس التحليلي.
الصراع عند الاغريق هو صراع مكثّف لأنه صراع ينطلق من البيت العائلي وسرعان ما تتوسّع آثاره التدميرية وتطفح عن المدينة لتفيض على الكون. الخلل في البيت العائلي يعني خللا في الكون. أغلب التراجيديات تنطلق من أزمة تصيب البيت العائلي ( أوديب، الأورستية،..)
عندما نتحدّث مثلا عن الاحتباس الحراري أو تقلص الأنواع والتهديد الذري، تبدو لنا هذه القضايا معزولة عن البيت العائلي، في حين أنه المطبخ الأصلي الذي تندلع منه الشرور. يعني أنّ الخلل الذي يصير في العائلة بين الجنسين والأجيال هو الذي يؤدّي إلى انحرافات تربك نظام الكون. هذا الأفق موجود، تؤكدّه القراءة المتفحصة.

في ما تتمايز «آخر البحر» عن «ميديا» ؟

بالنسبة لعملنا، ذهبنا بالعلامات المبثوثة في النص الأصلي إلى أقصاها. مثلا ميديا أوريبيد تكتفي بقتل أبنائها ومغادرة الأرض بينما عاتقة اليمنية في آخر البحر تتبنّى مشروعا خلاصيّا يتمثّل في إبادة الجنس البشري؛ حين تقول:” خيّطوا للنسا ..اقطعوا الذكرْ”، وتعتبر أن قتلها لأبنائها ضربا من ضروب الانقاذ والخلاص.
يختلف حمادي عن جازون في عدة نقاط. رحلة جازون في الأسطورة الإغريقية بحثا عن الجزّة الذهبية هي بمثابة رحلة مسارية؛ رحلة عبور من طور الفتوة إلى طور النضج والالتحاق بمصاف الرجال كاملي الأهلية. يعني أن رحلته من الناحية الشكلية، تتطابق مع طقس عبور في المطلق. طقس عبور ثلاثي الحلقات: الفصل، الهامش، ثم الاجازة. مثلا واقعة نفيه تتطابق مع مرحلة الفصل. وذهابه إلى كولشيدا يتطابق مع مرحلة الهامش، حيث يكون الفتى مطالبا بالمغامرة على أطراف عالم التوحش. لكن هذه الرحلة تبدو رحلة معطوبة وفاشلة لأنها لا تنتهي بالإجازة، فهي في النهاية رحلة مزيفة، ينقصها الاعتماد على الذات، لأنه لم يقم بهذه الرحلة حقيقة، فميديا/عاتقة هي التي اقترفت كل ما كان من المفروض أن يقترفه الرجال. ولم يبق لجازون إلا ذلك الجزء الأنثوي من المشروع، القائم على التحريض والخداع.
يمكن القول أن جازون لم ينجح في مسار عبوره من الفتوة إلى الرجولة. يشترك حمادي مع جازون في معطوبيته إلا أنه يختلف عنه في العمر. حمّادي مرتزق. قبل أن ينطلق في الرحلة إلى اليمن تشكلت شخصيته نهائيا. شخصية مجبولة على الكذب والعنف وعلى الجبن وعلى الانتهازية وحتى اعتماده على الكليشهات مثل باقة الوردة والكتاب هي من قبيل اظهار التهذيب أو سعة الاطلاع، وهي وسائل خداع وتزييف. يكره النساء وله عقلية ذكورية متطرفة ويملك نوعا من العمى الأخلاقي والوجداني، لأنه عندما ذهب لجلب الكنز/ المخطوط، لم ينتبه إلى الكنز الاخر، المتمثل في المرأة. صورة الثعبان الذي يلتهم ذيله تعبّر عنه تعبيرا بليغا، لأن الجانب القضيبي فيه، يمثّله الثعبان في حد ذاته، سرعان ما يتشكل نظرا لمعطوبيته، ويبدأ بالتقوّس، فيلتهم ذيله، وتعود كينونته صفرا. والبعد المرذول فيه هو ما يبعث على الضحك.

• كيف بنيت شخصية حمادي المعادل لشخصية جازون ؟

هناك أشياء لا استطيع تفسيرها. يبقى أنه ثمة في التعامل مع الشخصية هناك استعارات أستعملها، مثلا استعارة العشّ. مثلما يبني العصفور عشّه من الداخل أبني الشخصيات التي أمثلها قشة قشة. عندما يبدأ العصفور بناء عشّه، يبدؤه من الداخل. كل قشة يلزم أن يبللها عرقا ويطوّعها بأنفاسه كي تتشكّل على قدر جسده، لا هي ضيّقة ولا واسعة، حتى يستطيع أن يعيش وسطها. هذه القشة الرهيفة الجافة عندما تشكلّها على المستوى الانساني تتحول إلى مادة صلبة قاسية خشنة، فالعصفور يبني بها عشا، أما أنت فتبني بها عالم الشخصية وتبعد على منطق السطو ؛ السطو على عش الاخر. أحيانا تسطو بعض العصافير على أعشاش غيرها، رغم أنّ حجمها ليس على مقاسه.
عمليّة بناء العشّ هذه؛ العشّ بما هو مأوى، تحدث في المعاودة والمزيد من المعاودة. في العالم الذي نعيش فيه اليوم، يحّس الكائن أنه دون مأوى وسكن رغم امتلاكه لبيت، وكأن الصعود على الركح محاولة بناء افتراضية للكينونة.
هي استعادة للأصلي، والافلات المؤقت من أحابيل الاغتراب والزيف. عندما يتكثّف الفضاء والزمن ويعانقان الأصل، الأشياء الأصلانية.
أعوّل في عملية البناء هذه، على المخزون الشخصي من التجربة الحياتية أو الأسطورة الشخصية، أوّلا. ثم القراءات، ثم الملاحظة في المجتمع؛ ملاحظة الافراد وجراحهم، الحركات، القصص والحكايا. وكذلك على عملية التوليد التي يقوم بها المخرج.

• كيف كان التعامل مع الجعايبي ؟

أقول أنها تجربة ممتعة ومهمة جدا، رغم القسوة، قسوة المسرح. المسرح نفسه له أحكامه ولا يجامل. إمّا أن تلتقط اللحظة الشعرية أو أنهّا تمرّ من أمامك كشبح عندما تتهاون. الممثل لا يرصدها، بل المخرج. الممثل يعيش الأزمة. عندما يتم اقتراح وضعية معينة عليك ويعطيك المخرج معطيات ومسالك وعوائق ومعطلات، أنت وكيف تعبّر. هناك مسألة أخرى هي الجدل. الجدل يمر بمراحل؛ مقترح المخرج، ثم مقترح الممثل الذي يعود بدوره إلى المخرج الذي يشتغل عليه ويعيده إليك أكثر سمكا. عبر عملية المشاركة هذه يتقدم المقترح، يتطور أو يبطل ويستبدل بمقترح آخر. ثمة وضعيات، حالات ورهانات وايقاع، الأعمدة الأربعة لعملية الارتجال. وعملية التطوير والتعديل مستمرة ودؤوبة.
مع الجعايبي هناك حسن إنصات متبادل. وقد نجح في خلق لحمة ودينامية بين أعضاء المجموعة وتحسيسهم بالمسؤولية. الجعايبي له ملكة، نوع من الاقتدار، مَلَكَة الذهاب بالممثل إلى نوع من الشعرية بلغة المسرح. مقترحات الممثل فيها الغث والسمين، وهو كمعلّم، له القدرة على الفرز.

• ما المبرّر لجعل تونس كورنثا الحديثة ؟

بالنظر إلى العالم العربي وقرب تونس من أوروبا وتجربتها التحديثية الاصلاحية من بورقيبة إلى الطاهر الحدّاد، بدأت تتكوّن لدى التونسيين عقدة التفوق الحضاري؛ وهي مسألة مغلوطة. في النهاية لم تكن التجربة التونسية تجربة أصيلة. كانت مزيفة ومستلفة، ناهيك عن عنصريتهم تجاه الغريب والوافد واللاجئ. بالإضافة إلى حالة الفصام بين النصوص القانونية المتعلقة بالأحوال الشخصية ومكانة المرأة وبين الواقع المعيش.
هذه هي فاجعتنا. أي أفول الأحلام التونسية. الشباب الان يرمي بنفسه في البحر بحثا عن الحياة والأمل في مكان آخر، وهو بدوره أمل واهم. تصحّر البلد واستحوذ عليه رأسمال المهرّب المضارب المتوحّش الذي هرب بالجزّة الذهبية، وتركه حطاما مثل الحصى الملقاة على خط انكسار الموج.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

جديد شركة لوغوس للنشر والتوزيع : رعاية الموهوبين ومزرعة الحيوان

صَدَر عن شَرِكَة لوغوس للنَشر والتوزيع عَمَلان جَدِيدان:  بحث عن رعاية الموهوبين وترجمة لم…