الانزياح في الرؤية الجمالية عند الصوفية : (2 من 3) ابن العربي و الغزالي و جلال الدين الرومي مثالا
إذن توصل كل من العزالي وابن عربي الى وجود قوة أقوى من قوة العقل توصل الى المعرفة الحقيقية، وهي معرفة الله الذي أفاض ـ على عبده المتقرب ـ من نوره علما نورايّا يأتي عن طريق القلب لا العقل، كالنور الذي «قذفه الله تعالى في الصدر وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف (8). إلا انّ هذا العلم لا يمكن الوصول اليه بالتعلم بل بوسائل إدراك اخرى وهي قوى الذوق والحال الكشف وغيرها من القوى المقترنة بالقلب وما يتجلى اليه من معارف على اعتبار ان القلب هو القوة التي وراء طور العقل، فالله ـ بحسب ابن عربي استثنى البعض من عباده في قوله تعالى «لمنْ كَانَ لَهُ قلبٌ» (سورة ق، 37) «فالتقليب في القلب نظير التحول الالهي في الصورة، فلا تكون معرفة الحق من الحق الا بالقلب لا بالعقل، ثم يقبلها العقل من القلب كما يقبل من الفكر، فلا يسعه سبحانه إلا أن يقلب ما عندك، ومعنى قلب ما عندك هو أنك علقت المعرفة به عزّ وجلّ وضبطت عندك في علمك أمرا ما، وأعلى ما ضبطته في علمك به أنه لاينضبط سبحانه ولا يتقيد ولا يشبه شيئا ولا يشبهه شيء، فلا ينضبط مضبوط لتميزه، عمّا ينضبط، فقد انضبط ما لا ينضبط مثل قولك: العجز عن درك الادراك ادراك» 9. وتعدّ قوى الذوق والحال والكشف من القوى التي لا يمكن الوصول اليها بالتعلم وإنما بالفعل ورياضة الحال والسلوك والممارسة وقطع علاقة القلب عن الدنيا والشهوات والمجاهدة في تزكية النفس وتهذيب الأخلاق كلها عن طريق الإعتكاف وإغلاق الباب على النفس، وقد تنكشف لسالك هذه الطريقة علوم، اعتبرها الغزالي علوما مقبتسة من نور مشكاة النبوة، وهو يعتبر انه ليس وراء نور النبوّة على وجه الأرض نور يستضاء به، فبإمكان السالك ان يبتدي، اول الطريق، من ادراك مرحلة المكاشفات والمشاهدات، الى درجة انّه يمكن في يقظته ان يشاهد الملائكة وأرواح الأنبياء، ويسمع أصواتهم ويقتبس منهم الفوائد والنصائح ثم يرتقي الحال به الى أن يصل الى انفتاح العين التي ينكشف منها الغيب وهو أعلى درجات الإدراك التي لا يصل اليها الا الخواص والتي يسميها جلال الدين الرومي 10 العرفانية اي الطريق الى المعرفة، وتجدر الاشارة الى ان جلال الدين الرومي لا يشك في قوى الإدراك العقلية والحسية، الا انه يدرك محدوديتها وعجزها عن حلّ المشاكل الوجودية وإثباتها وعدم قدرتها على تسهيل التقدم في طريق الكمال الانساني.
وقد حلل الدكتور فرانكلين لويس في كتابه «الرومي ماضيا وحاضرا شرقا وغربا» مقاربة جلال الدين الرومي حول وسائل الإدراك الانسانية وأيها الموصلة الى درجة الكمال المعرفي فيقول: «فالبحث العقلي ـ عند الرومي ـ مهما كان دقيقا، لا يمكن أن يقارن بـ«البحث الروحي»، ذلك لأن العقل والحواس تدرك السبب والنتيجة، أما الروح فيدرك أعاجيب فوق أعاجيب وقد يمتلك الانسان الأول ويظلّ محتاجا كليا الى الثاني، لكنه عندما يمتلك الانسان ذلك الروح العجيب ويستطيع رؤية الحقيقة، تغدو مبادئ المنطق، مثل العصا عند الأعمى، غير ضرورية، والحقيقة أن الاعتماد على العقل يمكن ان يغدو عائقا لنمائنا وترقينا في طريق الكمال» 11.
ويقول جلال الدين الرومي في المثنوي:
«وإن كان عقلك يطير نحو الأوج، فطائر تقليدك يرعى في الحضيض
(…) وينبغي الانصراف عن هذا العقل الجاهل، وينبغي التشبث بالجنون
(..) فلقد جربت العقل عميق التفكير، ومن بعد، لأجعل نفسي مجنونا» 12.
ومدلول العصا ـ في هذا المثال ـ هو القياسات والأدلة العلمية الداعمة للنهوض الفكري لدى الانسان، وهي التي بها يتلمس طريق معرفة الوجود وواجب الوجود، الا ان الانسان ـ في نظر جلال الدين الرومي ـ قد أساء استعمال عصا الاستدلال والقياس، فأفضت به هذه الاساءة الى عمى الفخر والغرور، ذلك أنه ـ بفخره بدرجة تعقله للأمور ـ ثار على حقائق وجودية ثابتة، أرشد اليها الأنبياء والمرسلون في صورة يعجز العقل عن إثباتها، كعصا موسى التي تحولت الى ثعبان او الحصى التي نطقت بالشهادة في يد أبي جهل لمّا سأل هذا الاخير النبي صل الله عليه وسلم إذا كنت نبيا فما هذا المخفي في يدي» 13، ففي هذه الحالة يرى جلال الدين الرومي انها وحدها المعرفة الروحية قادرة على ادراك هذه الصور الواقعية واثباتها عن طريق التجريب وممارسة الطريقة العرفانية، فلذّة الدين عنده ان لم تكن بالشيء غير المعقول، فمتى كانت في حاجة الى عدة معجزات؟ وكل معقول يتقبله العقل دون حاجة لمعجزة ودون جر ومد». 14.
من هنا يتأكد لدينا أن الغزالي وابن عربي وجلال الدين الرومي قد اتفقوا جميعهم على أن حقيقة الادراك تكمن في المعرفة الباطنية اي معرفة الله سبحانه وتعالى، فهو الحق، وهو الذي «تسمّى بالظاهر والباطن، فالظاهر للصور التي يتحول فيها الباطن للمعنى الذي يقبل التحول والظهور في تلك الصور» 15. ولعل هذه المعرفة تقترن بمفهوم الوجود من خلال معنيي الظهور والتمظهر، فالوجود هو الظهور، والوجود المطلق هو الظهور المطلق، وبه يتمظهر كل وجود مقيد بصورة. وميزة الوجود المطلق، ان ظهوره التام يوجب بطونه التام، لذا ينتج عن كل محاولة لمعرفة الوجود بالذهن بطونه واختفاءه، لأن الماهيات المرتبطة بالوجود تنبني على أساس التميز بين الخالق والمخلوق وهذا ما رأيناه عند الفلاسفة المسلمين خاصة المعتزلة والأشعرية منهم، لذلك كان البحث في الوجود والمعرفة عند الصوفية منزاحا عن ذاك الذي قدّمه الفكر الفلسفي العربي والاسلامي السابق لهم وحتى المعاصر، لا سيما المعرفة المتعلقة بالجمال،
فما الذي يميز الادراك الصوفي للجمال عن بقية الأفكار المنتمية الى الفكر العربي الاسلامي؟
لقد أقرّ مختلف المفكرين الاسلاميين ان منبع الإدراك الجمالي هو الوحي الإلهي، وأن الجميل والجليل يُدركان انطلاقا من القوى الحاسة والقوى الناطقة من خلال الإحساس باللذة او من خلال محاكاة الجمال الفائض من واجب الوجود على الموجود، في حين أقرّ الصوفية أنّ منبع الإدراك الجمالي هو الله، وأن الجلال والجمال صفتان أزليتان لله تعالى. وقد عرّف محي الدين بن عربي الجلال والجمال فقال: «أعلم أن الجلال والجمال مما اعتنى بهما المحققون العالمون بالله من أهل التصوف، وكل واحد نطق فيهما بما يرجع الى حاله، فإن أكثرهم جعلوا الأنس بالجمال مربوطا، والهيبة بالجلال منوطا، وليس الأمر كما قالوه. وهو أيضا كما قالوه بوجه ما وذلك أن الجلال والجمال وصفان لله تعالى والهيبة والأنس وصفان للانسان، فإذا شهدت حقائق العارفين الجلال هابته وانقضبت، واذا شاهدت الجمال أنست وانبسطت، فجعلوا الجلال للقهر، والجمال للرحمة، وحكموا في ذلك بما وجدوه في أنفسهم (…) وأريد إن شاء الله، أن أبين هاتين الحقيقتين على قدر ما يساعدني الله به في العبارة فأقول: إذ الجلال لله معنى يرجع منه إليه، وهو الذي منعنا من المعرفة به تعالى، ان ليس لمخلوق في معرفة الجلال المطلق مدخل وشهود انفرد الحق وهو الحضرة التي يرى الحق فيها بما هو عليه، فلو كان لنا مدخل فيه لاحظنا علما بالله، وبما عنده، وذلك محال. وأما الجمال: فهو معنى يرجع منه إلينا وهو الذي أعطاه هذه المعرفة التي عندنا والتنزلات والمشاهدات والأحوال، وله فينا أمران الهيبة والأنس، وذلك لأن لهذا الجمال دنوّا وعلوّا. فالعلوّ نسميه جلال الجمال وفيه يتكلم العارفون هو الذي يتجلى لهم، ويتخيّلون أنهم يتكلمون في الجلال الأول الذي ذكرناه. وهذا جلال الجمال قد اقترن معه منا الأنس والجمال الذي هو الدنو الذي اقترن معه منا الهيبة. فإذا تجلّى لنا جلال الجمال منا أنسنا ولولا ذلك لهلكنا. فإن الجلال والهيبة لا يبقى لسلطانهما شيء، فيقابل ذلك الجلال منا بالأنس منا لنكون في المجاهدة على الإعتدال حتى نعقل ما نرى ولا نذهل، واذا تجلى لنا الجمال هبنا، فإن الجمال مباسطة الحق لنا، والجلال عزته عنا، فنقابل بسطه معنا في جمال هيبته، فإن البسط يؤدي الى سوء الأدب، وسوء الأدب في الحضرة سبب الطرد والبعد، ولهذا قال بعض المحققين ممن عرف هذا المعنى اقعد على البساط، واياك والانبساط، فان جلاله في أنسنا يمنعنا في الحضرة من سوء الادب، قال الشيخ: فكشفُ أصحابنا صحيح، وحكمهم بأن الجلال يقبضهم، والجمال يبسطهم غلط، وإذا كان الكشف صحيحا فلا نبالي، فهذا هو الجلال والجمال كما تعطيه الحقائق» 16. إذا يرى ابن عربي ان الجمال هو وسيلة لإبراز الحقيقة الوجودية من خلال الذائقة التأويلية. فالتأويل الذوقي يختلف في إدراكه للجمال عن كل مدركات الحواس، هو يميل الى التجاوب مع الاشارة التي يفرزها التصور الروحي الاستبطاني الذي يُمكّن النفس من الارتفاع من العالم المجرد الى مرآة النور المطلق في صفات الحق سبحانه وتعالى. ويرى ابن عربي ان الحقّ تسمى بالظاهر والباطن، فالظاهر للصور التي يتحول فيها، والباطن للمعنى الذي يقبل ذلك التحول والظهور في تلك الصور. وبما أن العالم نسخة إلهية على صورة حق، خلق الله آدم على صورته الكاملة والمختصرة والظاهرة بحقائق الكون كله حديثه وقديمه 17، ليكون العارف على صورة المعروف ويكون الجمال عند الخالق جلالا يهابه المخلوق اذا أدركه ويكون الجمال عند المخلوق بهاءً تستنأس النفس عند إدراكه وتنبسطُ السريرة اليه،
يقول ابن عربي:
«إنّ الجميل الذي الإحسان شيمته
هو الذي تعرفُ الأكوان قيمته
إذا يراهُ الذي فينا يحبّبهُ
يرى الوجود فيبدي فيه حكمتهُ» 18
كما يرى ابن عربي ان الجمال محبوب لذاته، فإذا انضاف اليه جمال الزينة يصير جمالا على جمال، كنور على نور، ومحبة على محبة، فمن أحبّ العالم لجماله فإنما أحبّ الله، فقد اوجد الله العالم في غاية الجمال والكمال خلقا وإبداعا، فإنه تعالى يحب الجمال 19، وما ثمّ جميلٌ إلاّ هو، فأحبّ الله نفسه ثم أحبّ أن يرى نفسه في غيره، فخلق العالم على صورة جماله، ثم جعل الجمال المطلق الساري في العالم، جمالا عرضيا مقيدا، تفوق فيه بعضه على بعض بين جميل وأجمل. إن إدراك الجمال عند الصوفية يكمن في اشتياقهم العودة الى صورة الحق، فقد أضلهم العالم الدنيوي عن معرفة هذه الصورة، وشعر الإنسان بغربته وانفصامه عن أصله، فكان اجتهادهم الروحي الاستبطاني طريقهم الى العودة الى الاصل لمشاهدة الحق بقلوبهم، وكان التزامهم بهذه الحال معيارا لوجودهم وطريقا لمعرفتهم.
ولأنّ الانزياح فطرة إنسانية تميّزت تجربة جلال الدين الرومي بتحوّلات كثيرة كان أهمها الانتقال المفصلي من حالة التحرر من اي قيد، حيث أنه كثّف الشعائر داخل القلب حتى تتعمق داخله قوى الكشف والحال والذوق، فتحوّل الإيمان من دائرة الباطن ومن مآل العادة والالية الى مجال الارادة والحرية، وهذه التجربة سماها ابن الرومي: التجربة العرفانية. وما يميّز هذه التجربة الروحية انها تجعل من المحبة المؤطر للسير والسلوك، فهي جوهر التجربة برمتها، فالمحبة فناء، عن الذات وبقاء في الله، فلا يتمّ الوصال إلاّ بالمحبة. إلا انه حوّل هذه المحبة الى تجربة عشق، فكان العشق منطلق التغيير في حياة جلال الدين الرومي العرفانية، وهو ما انعكس في فكره وسلوكه. لقد كان العشق الإلهي عنوانا لتجربة ابن الرومي العرفانية، والعشق هو أقصى حالات الفناء التي من خلالها تذوب الروح في نيران الشوق الى ملاقاة الله، وفيها تنتمي الذاتية وتفترق الروح عن الجسد ويتجلى الحق الى العاشق الذي يقع في بحر أنسه حتى لا يحترق في العشق والشوق.
الساحة الفنية التونسية والعربية تفقد أحد مبدعيها : وداعا فتحي الهداوي..
فقدت الساحة الفنية التونسية والعربية مساء أمس الخميس الممثل المسرحي والتلفزيوني والسينمائ…