لعل الواقعة الأخيرة التي تناقلتها وسائل الإعلام حول تجمّد طفلين لم يتجاوزا السادسة عشر ربيعا من عمرهما في ثلاجة إحدى البواخر  بميناء حلق الوادي كان شرارة قادحة لمسألة شائكة وبالغة التعقيد وهي تندرج في إطار الجريمة المنظمة ونعني تحديدا الاتجار بالبشر والتي تتقاطع مع «الحرقة» وما يحفّ بها وما يدور حولها.

والأكيد أن هذين الطفلين اللذين راحا ضحية واقع مأزوم تتشابك خيوطه يمكن أن يكون منطلقا لطرح هذه الظواهر الخطيرة المتشابكة التي أصبحت تشكل تهديدا حقيقيا لمجتمعنا ولتوازناته الطبيعية.

وبالعودة إلى تفاصيل الواقعة الأليمة فإن أربعة أطفال قاموا بالتسلل إلى ميناء حلق لوادي ومن ثمة إلى الباخرة الراسية هناك ووصلوا إلى مكان تخزين المؤونة وقاموا بالاختباء في الثلاجة معتقدين أنهم  سيتخفون عن الأنظار لوقت قصير ثم يغادرون مخبأهم السري و فاتهم أن الثلاجة لا تنفتح إلا من الخارج فكان التجمد مصيرهم المحتوم ولم يتسن إنقاذ اثنين منهما بينما يكابد الطفلان اللذان بقيا على قيد الحياة في غرفة الإنعاش حاليا.

والأكيد أن خلف هذه الواقعة شبكة «عنكبوتية» محكمة الخيوط قادت هؤلاء الأطفال إلى هذا المصير المشؤوم فوصولهما إلى الميناء وتسللهما الى داخل الباخرة واختبائهم في هذا المكان بالتحديد ليست عملية بسيطة يمكن أن يقدم عليها أي شخص مهما كان مغامرا فلابد من حاجته إلى المساعدة. وهذا ما يرجح فرضية وجود شبكات عابرة للحدود تشتغل على الاتجار بالبشر وتستفيد من الرغبة الجامحة للمراهقين والشباب بالتحديد في المغادرة والالتحاق بالضفة الشمالية للمتوسط التي ما تزال حلما يراود قطاعا واسعا من التونسيين على اختلاف مستوياتهم الاجتماعية والثقافية ومهما كانت سنّهم.

والأكيد أن هذه الشبكات تستغل الهشاشة  النفسية والمادية والاجتماعية والفكرية لبعض الفئات لاستقطابهم تماما كما تفعل تنظيمات التطرف العنيف وتقوم بتسهيل عمليات «التسفير» لهم وتقوم بالتنسيق مع أعضائها في خارج الحدود من أجل «إدماجهم» في تنظيمات إجرامية حالما يصلون إلى فضاء الاتحاد الأوروبي.

وهنا سيكون طرح الأسئلة  المركزية  الآتية  بالغ الوجاهة :

كيف وصل هؤلاء الأطفال إلى داخل باخرة راسية في ميناء حلق الوادي ؟ وماذا لو كان الأمر يتعلق بعناصر مسلحة ؟ وما الذي كان يمكن أن يحدث في عرض البحر ؟ وما هي الأطراف التي سهلت هذه العملية من  بدايتها ؟ وهل هناك تواطؤ أم تقصير من الجهات المشرفة على الباخرة؟

بالتأكيد الإجابة على هذه الأسئلة بشفافية وجدية ستفتح المجال أما السلطات الأمنية لمكافحة هذه الظاهرة وتفكيك شبكة العنكبوت التي نسجت خيوطها في بلادنا وتستهدف شبابها وأطفالها للقضاء على مستقبلها وإرباكها في الحاضر.

ولا ينبغي بأي حال من الأحوال التعامل إعلاميا مع هذه الظاهرة الخطيرة على أساس أنها تندرج في خانة المتفرقات بل هي مسألة أمن قومي بكل ما تحمله المفردة من معان والتصدي لها هو عمل جماعي. فالجهود الأمنية في هذا الخصوص ينبغي تثمينها لكن وحدها لا تكفي. فمن المهم أيضا أن تقوم الأسرة بدورها على الوجه الأكمل في متابعة أبنائها من الأطفال والمراهقين والشباب وان تفتح أعينهم على المخاطر التي تهددهم حتى لا يكونوا ضحايا  شبكات الاتجار بالبشر.

فالاستقالة الأسرية التي بتنا نلاحظها منذ ما يزيد عن العقدين من الزمن ساهمت بشكل كبير في جعل هذه الفئة الهشة من الأطفال والمراهقين ضحايا لكل التهديدات والمخاطر.

كما أن التسرّب المدرسي بعدما باتت المؤسسات التربوية طاردة للتلاميذ ظاهرة ينبغي أن لا نستهين بها وكان لها إسهام كبير في انتشار مختلف أنواع الانحراف فمن المفترض أن يكون الأطفال المذكورين أعلاه في حضن أسرهم ومدارسهم ووجودهم خارج هذه الأطر يعني الفشل الذريع للعائلة وللمنظومة التربوية على حد سواء.

ولعلّه من المهم التذكير بأنه  تم تسجيل نسب انقطاع مدرسي مرتفعة جدا بعد الثورة فقد بلغ عدد المنقطعين عن الدراسة حوالي مليون تلميذ في ظرف عشر سنوات وهو رقم مفزع. وهؤلاء بالتحديد هم وقود الجرائم بمختلف أنواعها بدءا بالسرقة مرورا بالتطرف العنيف والهجرة غير النظامية ووصولا إلى ظاهرة الاتجار بالبشر بمختلف تعقيداتها وتفرعاتها.

وكذلك يلعب الإعلام دورا مهما في كشف ملابسات مثل هذه الظواهر وإماطة اللثام عن كل الضالعين فيها  مساهمة في استقرار المجتمع.

وبناء على كل ما سبق من المهم الأخذ في الاعتبار كل هذه المعطيات لمقارعة هذه الظاهرة الخطيرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

عن المنظومة التربوية مرة أخرى..

هل بدأنا نحصد ما زرعناه ومن يزرع الشوك يجني الجراح كما قال شاعرنا الخالد أبو القاسم الشابي…