يدخل العالم الحديث أو هو يصل الى مرحلة غير مسبوقة من «التوحش» يسميها علماء الاجتماع «مرحلة ما بعد الاحلام الكبرى» وهي المرحلة التي يسعى فيها الافراد الى النجاة بأنفسهم والنزوع نحو الخلاص الفردي حتى وان كان ذلك عبر تدمير الاخرين…

«مرحلة توحش كبرى» تتحول فيها الافكار الى مجرد هواجس والاحلام الى مجرد أمنيات وهي المرحلة الاشدّ فتكا بكلّ ما شيدته الانسانية على امتداد تاريخها من أفكار ومن قيم ومن وعود بعالم انساني تتساوى فيه الشعوب في تقرير مصيرها.. لكن الواقع الدموي الفضائحي اليوم وما نشهده من تدمير لكل أشكال الوجود البشري إنما ينبئ ببداية تاريخ آخر بصدد التهيؤ للانسانية…

نعم ثمّة شيء ما بصدد التهيؤ للانسانية وهذا سبب من بين الاسباب التي تبرر سعي الانظمة والحكومات الى تعزيز قدرات بلدانها الدفاعية والعسكرية والاستثمار في التكنولوجيا الحربية ومن ثمّة الاستحواذ على كل انتاجات الذكاء البشري وكل ابتكاراته بما في ذلك «الذكاء نفسه»…

يسيطر الخوف على العالم الحديث… الخوف من هذا المجهول الذي سيعقب حروب المرحلة حين تضع أوزارها وقد يكون هذا المجهول قوّة عسكرية كبرى نائمة (لم تخض أي حرب الى حدّ الآن ولم تتورّط في أي صراع اقليمي أو دولي) أو قطبا متعدّد المحاور أو تكتلا دوليا ضخما بين يديه المال والسلاح وقيم جديدة «لادارة التوحش»…

علينا أن ندرك أن لحركة التاريخ قوانين قاسية جدّا وبأن ما نشهده اليوم من عجرفة واستعصاء وطغيان للقوى العظمى قد يتحول بعد سنوات الى وهن وضعف «فعُمُر» هذه القوى مرتبط أساسا بقيمها وبأخلاقها وبآدابها وبمدى متانة القيم الانسانية التي جعلت منها «قوّة عظمى» بقطع النظر عن امكانياتها الحربية والعسكرية…

الولايات المتحدة الامريكية وروسيا والصين وبريطانيا و«أوروبا الموحدة» كلها ـ الآن ـ بصدد التآكل وهي تتحرك ضد  «دورة التاريخ» وعكس بوصلته بل هي لم تتّعظ من حركة التاريخ ومن دروسه الكبرى وهي الدول التي يتوقع أن تكون على هشاشة وعلى وهن بعد سنوات قد تطول وقد تقصر بما ان كل المؤشرات تؤكد ذلك… فروسيا مورّطة في الخندق الاوكراني وهي تدفع الثمن باهظا ماليا واقتصاديا وانتصاراتها على الأرض تخفي هزيمة كبرى في الداخل الروسي حيث ارتفعت نسبة التضخم وتوسّعت دائرة البطالة والفقر وأصبحت العملة الروسية من العملات الرخيصة في الاسواق المالية الدولية وهي تعيش حاليا أزمة اقتصادية واجتماعية صامتة حيث تداعت تكلفة الحرب على أوكرانيا وأربكت الواقع المجتمعي في روسيا وأضعفته… نفس الشيء بالنسبة للولايات المتحدة الامريكية التي كانت تورطت في أفغانستان وخرجت منها «متعبة» وقد نجت بنفسها وبجيشها الذي أهلكه المستنقع الافغاني وهي بصدد البحث عن نجاتها اليوم من المستنقع العراقي وتسعى لمغادرته بكل الطرق وبأخف الأضرار ـ أمّا «الصين» فهي تتهيّأ ـ أيضا ـ «لتدمير نفسها» بدورانها من حول «تايوان» وهي تهدّد بغزوها في أي لحظة وفي ذلك ـ أيضا ـ جنون وبداية تؤشّر على تفكّك ما يسمّى بالدول العظمى.. ونفس الشيء بالنسبة للاتحاد الأوروبي الذي أضعفته الحرب الأوكرانية بعد تورّطه في دعم «لوجستي» حربي وعسكري لأوكرانيا وهو يخوض حربا بالوكالة تكاد تكون مباشرة مع روسيا.

هذا ما يسمّى في «الفكر السياسي» بالتدمير الذاتي الذي يسبق تفكّك القوى العظمى كما هو متوقع لها والتي تخوض حروبا توسعية «عشوائية»، «شخصية أحيانا» كحرب «بوتين» على زيلنسكي وستكون لها في الأخير نتائج وخيمة على شعوبها بحيث يصبح انحدار ما يسمّى بالدول العظمى ممكنا بل متوقعا وقد يكون في شكل تفكك سياسي ومجتمعي داخلي… وبما يمهد الطريق لنشأة عالم جديد يخرج من رحم هذا العالم القديم لكنه لن يكون أقل وحشية منه.. عالم قد يكون فوق «القانون الدولي»  محكوم بغطرسة شبيهة بغطرسة وفظاعة حروب «القرون الوسطى».. أليست حرب الإبادة التي يخوضها الجيس الصهيوني على غزة حربا بعقلية قروسطية تجاوز فيها عدد الشهداء أكثر من 24 ألف شهيد أغلبهم من النساء والأطفال ممّن تم قتلهم أو ذبحهم على مرأى ومسمع من العالم الأوروبي والأمريكي وهو نفس العالم الذي كان شاهد زور على مجازر مماثلة ارتكبت منذ ثلاثين سنة في حق البوسنيين..

ألم يشهد مسلمو البوسنة حرب إبادة جماعية امتدت على أربع سنوات ارتكب فيها الصرب أبشع وأفظع المجازر وتم خلالها القضاء على قرابة الـ30 ألف بوسني اضافة الى تهجير أكثر من مليون ونصف..؟

ما حدث منذ ثلاثين عاما في البوسنة يتكرر اليوم ـ  الآن ـ وأمام شهود الزور ذاتهم.. في غزة بطبيعة الحال وفي أوكرانيا.. وعلى الجهة الأخرى تستعد الصين لافتكاك تايوان أو تدميرها وتلك قيامة أخرى لو تمّت.. وفي السودان يخوض «الاشقاء» حربا قذرة من أجل السلطة.. وفي الشرق الأوسط  تصارع الدول والأنظمة العربية من أجل بقائها المرتهن بمدى عمق تبعيتها لأمريكا ونفس الشيء لدول الخليج العربي التي يدفع حكامها (كاش) للادارة الأمريكية حتى تحميهم من شعوبها ومن التهديدات المجاورة.

يحدث هذا الجنون على امتداد جغرافيا الكون حيث التاريخ بصدد التهيؤ للاعلان عن نهاية ما وولادة ما..

ألم نقل بأنه ثمّة شيء غامض بصدد التهيؤ للبشرية…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

ذكرى الجمهورية بين «واقعتين»..!

يحتفل التونسيون اليوم بالذكرى 67 لعيد الجمهورية الموافق لـ25 جويلية 1957وهي ذكرى عزيزة على…