في الشأن التربوي : المحدّدات الأخلاقية للتعليم والتعلّم
يتمثل الهدف الأسمى الذي تعمل كل المنظومات التربوية على تحقيقه في تمكين الناشئة من المعارف والتعلّمات وتعزيز امتلاكهم للمهارات والكفايات التي تحقق لهم الإدماج في المجتمع بعد تخرجهم وما ينجر عن ذلك من حياة مرفهة وعطاء ينمي المجتمع ويركز دورهم فيه . فكيف يدخل ذلك في باب أخلاقية التعليم والتعلّم في المنظومات التربوية ؟
إن أول سؤال علينا الاجابة عنه في هذا المجال هو: هل فعلا للتعليم والتعلّم محددات أخلاقية عليها تنبني أي منظومة تربوية ؟ والجواب نعم لأن حياة الإنسان عموما تخضع إلى قواعد أخلاقية معينة تنظم سلوكه في المجتمع الذي يعيش فيه. ومن أهم أدوار الكهول بما في ذلك الكهول في المدرسة هو نقل تلك القواعد الأخلاقية إلى الناشئة والذين يتولون بدورهم تنميتها بأنفسهم على مدى الحياة لأن الحياة الاجتماعية أخلاقية أو لا تكون وهي بذلك ضرورية لحياة الإنسان لأنه اجتماعي بطبعه. لذلك تعمل المدرسة من بابي التعليم والتعلّم على تربية الناشئة على تلك الأخلاق المجتمعية وفي صورة فشلها تصبح هناك أزمة لذلك اعتبر رئيس مجموعة البنك الدولي «جيم يونغ كيم» في تقرير 2021 ، أن أزمة التعلّم في العالم هي أزمة أخلاقية .
إن رسالة المدرسة أخلاقية بالأساس لأنها تعد الناشئة بناء على محددات أخلاقية تمكنهم منها وفقا للسياسة التربوية العامة وفي مجال التعلّم والمحتويات المدرسية ومن باب التعليم وعلاقة المدرس بتلاميذه .
هذا البعد الأخلاقي نجد له مدعّمات كثيرة في المنظومات التربوية المختلفة فمن حيث السياسات التربوية ومن خلال النصوص القانونية وإن اختلفت من بلد إلى آخر فإنها تتفق مثلا على سياسة تحقق العدالة والإنصاف بين المتعلمين، وتمكن كل المتعلمين المنضوين تحت رايتها من تعليم جيد، وتعمل جميعها على إعداد الناشئة للحصول على عمل بعد التخرج وبناء حياة نشطة جديدة، وتعدّهم ليكونوا مواطنين فاعلين في مجتمعاتهم متحمّلين المسؤولية في بناء أوطانهم وتنميتها بعد التخرج . وفي البعد الأخلاقي للسياسات التربوية أيضا نلاحظ أن كل المنظومات التربوية تعطي حقوقا متساوية للمتعلمين مثل الحق في التعليم عموما والمجاني في عديد الدول والحق في الإعلام التربوي والحق في التوجيه وفي الاختيار بين مسالك دراسية متنوعة والحق في المرافقة والدعم والحق في الرعاية النفسية .. كما تحارب كل المنظومات السلوكات المنافية للأخلاق وللسلوك الحضاري التي تأتيها الناشئة في المدارس من ذلك محاربة انتشار العنف بكل أشكاله في الوسط المدرسي والتصدي لعدم الانضباط العام في المدرسة أو في الأقسام خلال الدروس والتصدي لظاهرة الغش في الامتحانات … كما تعمل السياسات التربوية على حماية صحة الناشئة والمعاملة العادلة بينهم في هذا المجال حتى تتساوى حظوظ النجاح بين الجميع . وذلك من شأنه أن يبني لحمة بين أفراد المجتمع ويزيد من تماسكهم أمام الأزمات التي قد يتعرض لها مجتمعهم بعد إدماج هؤلاء الشباب في الحياة العملية .
ويبرز البعد الأخلاقي في التعليم والتعلّم أيضا من ذلك فتح باب التمدرس على مصراعيه للجميع مهما كان انتماؤهم وجنسهم ومستواهم الاجتماعي والاقتصادي.. وتحفيز المتعلمين جميعا على التميّز، وتطوير التعليم لقدراتهم الفكرية، وإعدادهم لمتغيرات الحياة ومستجداتها وإخضاعهم إلى التقييم العادل بمقاييس شفافة تحت إشراف مدرسين تكونوا تكوينا متشابها، وإكسابهم القيم المجتمعية والمهارات الحياتية الضرورية لحياتهم المستقبلية مثل مهارات الابتكار وحل المسائل..، وتنمية شخصيات المتعلمين في أبعادها المختلفة النفسية والأخلاقية والجسدية .. وبالمقابل ومن باب المحددات الأخلاقية يتعلم التلميذ احترام المدرسة والفاعلين فيها مثل المدرسين كما يتعلم المحافظة على حرمة المدرسة والالتزام بالقانون الداخلي لها وخاصة قواعد العيش مع الآخرين والتواصل معهم مما يدربه ويؤهله للمشاركة بفعالية في مجتمعه في المستقبل .
الأخلاقية حجر الزاوية
إن الالتزام بالمحددات الأخلاقية لعملية التعليم والتعلم في المنظومات التربوية المختلفة هو حجر الزاوية في تكوين الناشئة وبناء مجتمع تقوم دعائمه على التوازن والتضامن بين مكوناته البشرية المتكافئة تجمعهم رؤى أخلاقية وقيمية موحدة من أجل مستقبل مجتمعاتهم . وهنا نستحضر الحيرة التي تنتشر في بعض المجتمعات الغربية اليوم حول أزمة قيم جديدة لديهم والتي تناولتها عدة بحوث بالدراسة في باب فلسفة الأخلاق في فرنسا وألمانيا وغيرهما بهدف إيجاد حلول لتلك الأزمة من باب أخلاقية التربية واقتراح القيم التي يتم الاتفاق عليها حتى تتكفل بها المدرسة في تكوين الناشئة وهو ما يحيلنا إلى قولة عالم الاجتماع الفرنسي (Émile Durkheim, (1917 – 1858« لكل عصر تحد أخلاقي جديد عليه رفعه».
وفي الختام يجب أن يكون التعليم فرصة للناشئة للتشبع بالمبادئ الأخلاقية والقيم التي عليهم الالتزام بها ونقلها للأجيال التي تليهم لأنها المشترك القيمي الإطاري الذي لا يمكن أن تحيد عنه المدرسة لتحقيق هدفها في تربية الناشئة على الأخلاق الحميدة وإعداد أجيال من المواطنين الفاعلين الوفيين لوطنهم والملتزمين بقيمه الأخلاقية المجتمعية المشتركة والواعين بهويتهم الوطنية .
(❊) باحث وخبير في الشأن التربوي
اليوم العالمي للمدرّسين 2024 : المدرّس هو القلب النابض للعقد الاجتماعي الجديد
أقرت اليونسكو منذ سنة 1994 بتوصية مشتركة مع منظمة العمل الدولية تقليدا مهما بالنسبة للتعلي…