لا‭ ‬حديث‭ ‬هذه‭ ‬الأيام‭ ‬سوى‭ ‬عن‭ ‬ميزانية‭ ‬الدولة‭ ‬والنقاش‭ ‬العام‭ ‬كله‭ ‬تقريبا‭ ‬يدور‭ ‬وينحسر‭ ‬في‭ ‬قانون‭ ‬المالية‭ ‬ويتمحور‭ ‬حوله‭. ‬وتوجهت‭ ‬الأنظار‭ ‬إلى‭ ‬مجلس‭ ‬النواب‭ ‬حيث‭ ‬تمت‭ ‬مناقشة‭  ‬قانون‭ ‬المالية‭ ‬2024‭ ‬والمصادقة‭ ‬عليه‭ ‬وتولى‭ ‬رئيس‭ ‬الجمهورية‭ ‬قيس‭ ‬سعيد‭ ‬ختمه‭ ‬يوم‭ ‬11‭ ‬ديسمبر‭ ‬الجاري‭.‬

‭ ‬وكانت‭  ‬مساءلة‭ ‬الوزراء‭ ‬عن‭ ‬مصارف‭ ‬اعتمادات‭ ‬كل‭ ‬وزارة‭ ‬والنقائص‭ ‬الموجودة‭ ‬فيها‭ ‬مجال‭ ‬تحليل‭ ‬ونقاش‭ ‬في‭ ‬مجمل‭ ‬المنابر‭ ‬الإعلامية‭ ‬التي‭ ‬تم‭ ‬تركيز‭ ‬اهتمامها‭ ‬بشكل‭ ‬كلي‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الموضوع‭ ‬في‭ ‬الآونة‭ ‬الأخيرة‭. ‬

لكننا‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الخضم‭ ‬نتغاضى‭ ‬عن‭   ‬أمر‭ ‬بالغ‭ ‬الأهمية‭ ‬وهو‭ ‬المستقبل‭ ‬الاقتصادي‭ ‬لبلادنا‭ ‬سواء‭ ‬على‭ ‬المدى‭ ‬المنظور‭ ‬أو‭ ‬المدى‭ ‬المتوسط‭ ‬أو‭ ‬البعيد‭. ‬مع‭ ‬العلم‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬المستقبل‭ ‬لا‭ ‬يحدده‭ ‬قانون‭ ‬المالية‭ ‬فقط‭ ‬فميزانية‭ ‬الدولة‭ ‬مهمة‭ ‬جدا‭ ‬ولكنها‭ ‬ليست‭ ‬الأهم‭ ‬في‭ ‬خصوص‭ ‬معضلة‭ ‬اقتصادنا‭ ‬المعتلّ‭.‬

فميزانية‭ ‬الدولة‭ ‬التي‭ ‬تمت‭ ‬المصادقة‭ ‬عليها‭ ‬والتي‭ ‬تبلغ‭ ‬حوالي‭ ‬80‭  ‬مليار‭ ‬دينار‭ ‬تنقصها‭ ‬حوالي‭ ‬10‭ ‬مليار‭ ‬دينار‭ ‬لابد‭ ‬من‭ ‬تأمينها‭ ‬في‭ ‬أقرب‭ ‬الآجال‭ ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬التعويل‭ ‬على‭ ‬الاقتراض‭ ‬في‭ ‬الأفق‭ ‬المنظور‭ ‬لاسيما‭ ‬من‭ ‬صندوق‭ ‬النقد‭ ‬الدولي‭. ‬خاصة‭ ‬إذا‭ ‬علمنا‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الأخير‭ ‬قد‭ ‬تخلى‭ ‬تقريبا‭ ‬عن‭ ‬نية‭ ‬منح‭ ‬قرض‭ ‬لتونس‭ ‬بالنظر‭ ‬إلى‭ ‬إلغاء‭ ‬الزيارة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬مرتقبة‭ ‬في‭ ‬الفترة‭ ‬الأخيرة‭ ‬،‭ ‬والتي‭ ‬يبدو‭ ‬أنها‭ ‬تأجلت‭ ‬إلى‭ ‬أجل‭ ‬غير‭ ‬مسمى‭.‬

هذا‭ ‬عن‭ ‬المعطيات‭ ‬المتصلة‭ ‬بالأرقام‭ ‬والتي‭ ‬هي‭ ‬الطابع‭ ‬الأول‭ ‬والأساسي‭ ‬للميزانية‭ ‬كما‭ ‬يتم‭ ‬تقديمها‭ ‬إلى‭ ‬البرلمان‭ ‬فهي‭ ‬جداول‭ ‬رقمية‭ ‬بالأساس‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬تصورات‭ ‬ورؤى‭ ‬لتجعلها‭ ‬منطلقا‭ ‬لتطوير‭ ‬الاقتصاد‭ ‬وتحسين‭ ‬وضعية‭ ‬المواطنين‭ ‬تبعا‭ ‬لذلك‭.‬

فالمعطيات‭ ‬الرقمية‭ ‬التي‭ ‬يتأسس‭ ‬عليها‭ ‬قانون‭ ‬المالية‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬يقرّها‭ ‬المحاسبون‭ ‬تبدو‭ ‬عمليات‭ ‬امحاسباتيةب‭ ‬صرفة‭ ‬مقارنة‭ ‬بما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نسميه‭ ‬الاقتصاد‭ ‬الواقعي‭. ‬ذاك‭ ‬الذي‭ ‬نعلم‭ ‬جميعا‭ ‬حالة‭ ‬الوهن‭ ‬التي‭ ‬هو‭ ‬عليها‭. ‬

والأكيد‭ ‬أن‭ ‬الرهان‭ ‬الأكبر‭ ‬المطروح‭ ‬على‭ ‬بلادنا‭ ‬هو‭ ‬حلحلة‭ ‬الوضع‭ ‬الاقتصادي‭ ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬محور‭ ‬النقاش‭ ‬العام‭ ‬في‭ ‬تونس‭ ‬حاليا‭. ‬وحتى‭ ‬نكون‭ ‬منصفين‭ ‬علينا‭ ‬الإقرار‭ ‬بأن‭ ‬هذا‭ ‬ليس‭ ‬دور‭ ‬الحكومة‭ ‬فقط‭ ‬بل‭ ‬كل‭ ‬الفاعلين‭ ‬وكل‭ ‬النخب‭ ‬عليها‭ ‬أن‭ ‬تعي‭ ‬التحدي‭ ‬الحقيقي‭  ‬ألا‭ ‬وهو‭ ‬تحسين‭ ‬الوضع‭ ‬الاقتصادي‭  ‬العام‭ ‬ذاك‭ ‬الذي‭ ‬يتجلى‭ ‬في‭ ‬المعيش‭ ‬اليومي‭ ‬للمواطنين‭.‬

فاقتصارنا‭ ‬على‭ ‬التمركز‭ ‬حول‭ ‬الميزانية‭ ‬لا‭ ‬يجعلنا‭ ‬قطعا‭ ‬نعتبرها‭ ‬السبيل‭ ‬الوحيدة‭  ‬للنهوض‭ ‬الاقتصادي‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬توفرت‭ ‬الإعتمادات‭ ‬المالية‭ ‬لتعبئتها‭.  ‬فعلى‭ ‬أهمية‭ ‬هذا‭ ‬الشأن‭ ‬علينا‭ ‬أن‭ ‬نميز‭ ‬بين‭ ‬الأهم‭ ‬والمهم‭ ‬وهذا‭ ‬بيت‭ ‬القصيد‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬العرب‭ ‬القدامى‭. 

إذن‭ ‬ميزانية‭ ‬الدولة‭ ‬التي‭ ‬ملأت‭ ‬الدنيا‭ ‬وشغلت‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬الآونة‭ ‬الأخيرة‭ ‬مهمة‭ ‬جدا‭ ‬ولكنها‭ ‬قطعا‭ ‬ليست‭ ‬أهم‭ ‬حدث‭ ‬تتحدد‭ ‬بمقتضاه‭ ‬ملامح‭ ‬الاقتصاد‭ ‬التونسي‭ ‬وتتحسن‭ ‬الأوضاع‭ ‬المالية‭ ‬والاجتماعية‭.‬

ففي‭ ‬بلد‭ ‬تغيب‭ ‬فيه‭ ‬الثروات‭ ‬الطبيعية‭ ‬ويعاني‭ ‬عجزا‭ ‬ماليا‭ ‬فائقا‭ ‬منذ‭ ‬سنوات‭ ‬على‭ ‬الدولة‭  ‬أن‭ ‬تعوّل‭ ‬على‭ ‬الكفاءات‭ ‬النوعية‭  ‬لتضع‭ ‬تصورات‭ ‬جدية‭ ‬لسياسات‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬الحوكمة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬القطاعات‭ ‬لتحسين‭ ‬الأوضاع‭.‬

ومستقبل‭ ‬الاقتصاد‭ ‬لا‭ ‬يحدده‭ ‬قانون‭ ‬المالية‭ ‬فقط‭ ‬فتونس‭ ‬مدعوة‭ ‬إلى‭ ‬تحريك‭ ‬الاستثمار‭ ‬الداخلي‭ ‬والسعي‭ ‬إلى‭ ‬جلب‭ ‬الاستثمارات‭ ‬الخارجية‭.‬

وإيجاد‭ ‬خارطة‭ ‬طريق‭ ‬اقتصادية‭  ‬أصبح‭ ‬اليوم‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ضروري‭  ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬إيجاد‭ ‬سياسات‭ ‬جديدة‭ ‬في‭ ‬قطاعات‭ ‬الفلاحة‭ ‬والسياحة‭ ‬والتعليم‭ ‬والصناعة‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬وليس‭ ‬الحصر‭. ‬

فكما‭ ‬هو‭ ‬معلوم،‭ ‬موارد‭ ‬الاقتصاد‭ ‬التونسي‭ ‬متأتية‭ ‬من‭ ‬القطاع‭ ‬الفلاحي‭ ‬عبر‭ ‬تصدير‭ ‬القوارص‭ ‬والتمور‭ ‬وزيت‭ ‬الزيت‭ ‬ومن‭ ‬السياحة‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬تحويلات‭ ‬التونسيين‭ ‬بالخارج‭ ‬وعائدات‭ ‬الفسفاط‭ ‬التي‭ ‬تراجعت‭ ‬بشكل‭ ‬ملفت‭ ‬في‭ ‬العقد‭ ‬الأخير‭. ‬وكل‭ ‬هذا‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬تصورات‭ ‬جديدة‭ ‬فالفلاحة‭ ‬مازالت‭ ‬أسيرة‭ ‬التغيرات‭ ‬المناخية‭ ‬كما‭ ‬نعلم‭ ‬جميعا‭ ‬والسياحة‭ ‬مرتبطة‭ ‬أساسا‭ ‬بالأوضاع‭ ‬السياسية‭ ‬الدولية‭ ‬وبالمسائل‭ ‬الأمنية‭. ‬وبالتالي‭ ‬فإن‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬القطاعات‭ ‬لا‭ ‬نستطيع‭ ‬التحكم‭ ‬فيها‭ ‬ولا‭ ‬نمتلك‭ ‬زمام‭ ‬الأمور‭ ‬فيها‭ ‬وعليه‭ ‬فلابد‭ ‬من‭ ‬مراجعة‭ ‬منوال‭ ‬التنمية‭ ‬بالأساس‭ ‬وتغيير‭ ‬مرتكزات‭ ‬الاقتصاد‭ ‬الوطني‭ ‬وتنويعها‭.‬

هذا‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬حتمية‭ ‬مراجعة‭ ‬بعض‭ ‬الشعب‭ ‬العلمية‭ ‬في‭ ‬التعليم‭ ‬العالي‭ ‬وخلق‭ ‬دينامية‭ ‬في‭ ‬علاقة‭ ‬الجامعة‭ ‬بالمجتمع‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬توفير‭ ‬تشغيلية‭ ‬عالية‭ ‬للخريجين‭ ‬وهي‭ ‬إحدى‭ ‬المعضلات‭ ‬الكبرى‭ ‬التي‭  ‬أدت‭ ‬إلى‭ ‬تنامي‭ ‬ظاهرة‭ ‬البطالة‭ ‬في‭ ‬صفوف‭ ‬الإطارات‭ ‬العليا‭.‬

أما‭ ‬تفعيل‭ ‬الدبلوماسية‭ ‬الاقتصادية‭ ‬وتطوير‭ ‬سبل‭ ‬نجاعتها‭ ‬فهو‭ ‬أمر‭ ‬بات‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ضروري‭ ‬خاصة‭ ‬مع‭ ‬بلدان‭ ‬القارة‭ ‬السمراء‭ ‬التي‭ ‬لابد‭ ‬من‭ ‬رأب‭ ‬الصدع‭ ‬معها‭ ‬والتخفيف‭ ‬من‭ ‬حدة‭ ‬بعض‭ ‬التوترات‭ ‬التي‭ ‬نشأت‭ ‬معها‭ ‬جراء‭ ‬قضية‭ ‬المهاجرين‭ ‬وما‭ ‬نتج‭ ‬عنها‭ ‬من‭ ‬اتهامات‭ ‬خطيرة‭ ‬لتونس‭ ‬وشعبها‭.‬

وعلى‭ ‬هذا‭  ‬الأساس‭ ‬يمكن‭ ‬معالجة‭ ‬المشاكل‭ ‬الهيكلية‭ ‬للاقتصاد‭ ‬التونسي‭ ‬وتطويره‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تحسين‭ ‬حياة‭ ‬المواطنين‭ ‬وظروف‭ ‬عيشهم‭. ‬وإذا‭ ‬لم‭ ‬يحدث‭ ‬هذا‭ ‬فإن‭ ‬التدهور‭ ‬سيتواصل‭ ‬بأشكال‭ ‬أكثر‭ ‬حدة‭.‬

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

السيادة الغذائية رهان الجمهورية ..أيضا !

 تعيش تونس هذه الأيام ديناميكية مهمة تشمل الجانب السياسي والاقتصادي والاجتماعي ويمكن اعتما…