مرة‭ ‬أخرى‭ ‬نستفيق‭ ‬على‭ ‬فاجعة‭ ‬انتحار‭ ‬طفل،‭ ‬آخرها‭ ‬المأساة‭ ‬التي‭ ‬جدت‭ ‬مؤخرا‭ ‬بمعتمدية‭ ‬خنيس‭ ‬من‭ ‬ولاية‭ ‬المنستير‭ ‬حيث‭ ‬أقدم‭ ‬الطفل‭ ‬ذي‭ ‬العشر‭ ‬سنوات‭ ‬على‭ ‬وضع‭ ‬حد‭ ‬لحياته‭ ‬بشكل‭ ‬تراجيدي‭ ‬فقد‭ ‬شنق‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬غرفته‭ ‬على‭ ‬اثر‭ ‬نقاش‭ ‬عائلي‭ ‬اعتيادي‭ ‬وفق‭ ‬ما‭ ‬جاء‭ ‬على‭ ‬لسان‭  ‬والده‭ ‬في‭ ‬التحقيقات‭.‬

وتفيد‭ ‬المعطيات‭ ‬الأولى‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الطفل‭ ‬يمتلك‭ ‬كل‭ ‬المقومات‭ ‬الذاتية‭ ‬والعائلية‭ ‬التي‭ ‬تجعله‭ ‬طفلا‭ ‬سويّا‭ ‬ومتوازنا‭ ‬نفسيا‭. ‬فهو‭ ‬من‭ ‬أسرة‭ ‬مرموقة‭ ‬ووالداه‭ ‬طبيبان‭ ‬وهو‭ ‬متفوق‭ ‬في‭ ‬دراسته‭ ‬وله‭ ‬شقيق‭ ‬وليست‭ ‬هناك‭ ‬مؤشرات‭ ‬تحيل‭ ‬على‭ ‬انحراف‭ ‬نفسي‭ ‬أو‭ ‬سلوكي‭ ‬له‭. ‬وهذا‭ ‬مثار‭ ‬صدمة‭ ‬ودهشة‭ ‬كل‭ ‬الذين‭ ‬تابعوا‭ ‬هذه‭ ‬الواقعة‭ ‬المأساوية‭. ‬

هنا‭ ‬هل‭ ‬يجدر‭ ‬بنا‭ ‬أن‭ ‬نعود‭ ‬إلى‭ ‬ايميل‭ ‬دوركايم‭ ‬لتفكيك‭ ‬ظاهرة‭ ‬الانتحار‭ ‬بمفرداتها‭ ‬الجديدة؟‭ ‬وهل‭ ‬نحتاج‭ ‬إلى‭ ‬دحض‭ ‬كل‭ ‬الأفكار‭ ‬الماقبلية‭ ‬التي‭ ‬تأسست‭ ‬لدينا‭ ‬عن‭ ‬الانتحار‭ ‬والتي‭ ‬مفادها‭ ‬أن‭ ‬الفقر‭ ‬والتهميش‭ ‬يقود‭ ‬الأطفال‭ ‬والمراهقين‭ ‬إلى‭ ‬وضع‭ ‬حد‭ ‬لحياتهم؟

للإجابة‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الأسئلة‭ ‬نحتاج‭ ‬قطعا‭ ‬إلى‭ ‬فهم‭ ‬عميق‭ ‬للظاهرة‭ ‬في‭ ‬أبعادها‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والنفسية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬والثقافية‭. ‬أما‭ ‬إذا‭ ‬أردنا‭ ‬الحد‭ ‬منها‭ ‬أو‭ ‬القضاء‭ ‬عليها‭ ‬فبالتأكيد‭ ‬لابد‭ ‬من‭ ‬حلول‭ ‬يتقاطع‭ ‬فيها‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬سياسي‭ ‬في‭ ‬المقام‭ ‬الأول‭ ‬مع‭ ‬السوسيوثقافي‭.‬

فإذا‭ ‬كنا‭ ‬نطمئن‭ ‬دوما‭ ‬إلى‭ ‬البديهيات‭ ‬من‭ ‬قبيل‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬الانتحار‭ ‬فكرة‭ ‬سوداوية‭ ‬تسيطر‭ ‬على‭ ‬الفرد‭ ‬عندما‭ ‬يخفت‭ ‬الأمل‭ ‬أمام‭ ‬عينيه،‭ ‬أما‭ ‬لدى‭ ‬الأطفال‭ ‬فإننا‭ ‬غالبا‭ ‬ما‭ ‬نرتاح‭ ‬إلى‭ ‬مقولات‭ ‬من‭ ‬قبيل‭ ‬أن‭ ‬الفقر‭ ‬وعدم‭ ‬إشباع‭ ‬الانتظارات‭ ‬والتطلعات‭ ‬المادية‭ ‬والمقارنة‭ ‬مع‭ ‬الغير‭ ‬من‭ ‬شأنها‭ ‬أن‭ ‬تخلق‭ ‬إحباطا‭ ‬نفسيا‭ ‬في‭ ‬نفوس‭ ‬الأطفال‭ ‬قد‭ ‬يقودهم‭ ‬إلى‭ ‬وضع‭ ‬حد‭ ‬لحياتهم‭.‬

لكننا‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬نتغافل‭ ‬عن‭ ‬معطيات‭ ‬خطيرة،‭ ‬ولا‭ ‬نعتبرها‭ ‬من‭ ‬المؤشرات‭ ‬الدالة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الخصوص‭ ‬وهي‭ ‬الشبكة‭ ‬العنكبوتية‭ ‬التي‭ ‬أصبحت‭ ‬مؤثرا‭ ‬أساسيا‭ ‬في‭ ‬نفسية‭ ‬الأطفال،‭ ‬لاسيما‭ ‬وأن‭ ‬كل‭ ‬المواقع‭ ‬في‭ ‬تونس‭ ‬اليوم‭ ‬مباحة‭ ‬ومتاحة‭ ‬بدءا‭ ‬من‭ ‬أساليب‭ ‬صناعة‭ ‬الموت‭ ‬التي‭ ‬تقدمها‭ ‬مواقع‭ ‬متطرفة‭ ‬تجند‭ ‬المراهقين‭ ‬وتغسل‭ ‬أدمغتهم،‭ ‬مرورا‭ ‬بالمواقع‭ ‬التي‭ ‬يستعرض‭ ‬فيها‭ ‬المؤثرون‭ ‬مقدرتهم‭ ‬الشرائية‭ ‬وصولا‭ ‬إلى‭ ‬المواقع‭ ‬الإباحية‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬مواقع‭ ‬أخرى‭ ‬تهدف‭ ‬إلى‭ ‬تدمير‭ ‬الشخصية‭ ‬عبر‭ ‬ألعاب‭ ‬الكترونية‭ ‬وتقديم‭ ‬وسائل‭ ‬عنيفة‭ ‬للأطفال‭ ‬من‭ ‬بينها‭ ‬كيفية‭ ‬الانتحار‭ ‬والترغيب‭ ‬فيه‭. ‬

ولعلنا‭ ‬نذكر‭ ‬جميعا‭ ‬تلك‭ ‬الصيحة‭ ‬التي‭ ‬أطلقت‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬العالم‭ ‬جراء‭ ‬انتشار‭ ‬لعبة‭ ‬الحوت‭ ‬الأزرق‭ ‬والارتدادات‭ ‬الحادة‭ ‬التي‭ ‬تركتها‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬المجتمعات‭ ‬وقد‭ ‬تم‭ ‬تسجيل‭ ‬ارتفاع‭ ‬ملحوظ‭ ‬لنسب‭ ‬الانتحار‭ ‬جراء‭ ‬هذه‭ ‬اللعبة‭ ‬المشبوهة‭. ‬

والأكيد‭ ‬أن‭ ‬التطور‭ ‬المذهل‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬صناعة‭ ‬المضامين‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬الانترنت‭ ‬لا‭ ‬نستطيع‭ ‬قطعا‭ ‬مجاراته‭ ‬ومتابعة‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬ينتج‭. ‬فيصعب‭ ‬على‭ ‬الولي‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬الظروف‭ ‬التي‭ ‬تعيشها‭ ‬بلادنا‭ ‬اليوم‭ ‬أن‭ ‬يكون‭  ‬متابعا‭ ‬دقيقا‭ ‬لما‭ ‬يحدث‭ ‬خلف‭ ‬جدار‭ ‬الغرفة‭ ‬الملاصقة‭ ‬له‭ ‬حيث‭ ‬يقبع‭ ‬ابنه‭ ‬أمام‭ ‬شاشة‭ ‬الحاسوب‭ ‬لـايستهلكب‭ ‬ما‭ ‬اتجودب‭ ‬به‭  ‬منصات‭ ‬غرف‭ ‬التحكم‭ ‬فيها‭ ‬مجهولة‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلينا‭. ‬

وهنا‭ ‬علينا‭ ‬الإقرار‭ ‬بأن‭ ‬إنقاذ‭ ‬الأطفال‭ ‬المراهقين‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الآلة‭ ‬الجهنمية‭ ‬هو‭ ‬فعل‭ ‬سياسي‭ ‬وقرار‭ ‬تتحمل‭ ‬فيه‭ ‬الدولة‭ ‬المسؤولية‭ ‬وعلى‭ ‬الوزارات‭ ‬المعنية‭ ‬وفي‭ ‬مقدمتها‭ ‬وزارة‭ ‬التكنولوجيات‭ ‬والاتصال‭ ‬التصرف‭ ‬بالسرعة‭ ‬والنجاعة‭ ‬اللازمتين‭ ‬كما‭ ‬حدث‭ ‬في‭ ‬عديد‭ ‬البلدان‭ ‬وفي‭ ‬مقدمتها‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية‭. ‬فحجب‭ ‬المواقع‭ ‬الخطيرة‭ ‬على‭ ‬الناشئة‭ ‬أصبح‭  ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ضروري‭.‬

وفي‭ ‬السياق‭ ‬ذاته‭ ‬على‭ ‬الدولة‭ ‬أن‭ ‬لا‭ ‬تترك‭ ‬الأطفال‭ ‬لمصيرهم‭. ‬فمراجعة‭ ‬برامج‭ ‬التعليم‭ ‬نحو‭ ‬مزيد‭ ‬من‭ ‬التثقيف‭ ‬وعدم‭ ‬اعتماد‭ ‬أسلوب‭ ‬املء‭ ‬الأدمغة‭ ‬بمعلومات‭ ‬للحفظب‭ ‬لا‭ ‬غير‭ ‬أصبح‭ ‬يحتاج‭ ‬المراجعة‭. ‬فنحن‭ ‬نحتاج‭ ‬إلى‭ ‬أطفال‭ ‬سعداء‭ ‬وأسوياء‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يكونوا‭ ‬متفوقين‭.‬

وفي‭ ‬نفس‭ ‬السياق‭ ‬من‭ ‬المهم‭ ‬اليوم‭ ‬توفير‭ ‬الإرشاد‭ ‬النفسي‭ ‬والتربوي‭ ‬والاجتماعي‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬المؤسسات‭ ‬التربوية‭ ‬عمومية‭ ‬وخاصة‭ ‬من‭ ‬اجل‭ ‬إنقاذ‭ ‬الأجيال‭ ‬القادمة‭ ‬ووضع‭ ‬حد‭ ‬للظواهر‭ ‬الخطيرة‭ ‬التي‭ ‬أصبحت‭ ‬تشكل‭ ‬تهديدا‭ ‬حقيقيا‭ ‬على‭ ‬الدولة‭ ‬والمجتمع‭.‬

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

السيادة الغذائية رهان الجمهورية ..أيضا !

 تعيش تونس هذه الأيام ديناميكية مهمة تشمل الجانب السياسي والاقتصادي والاجتماعي ويمكن اعتما…