طلاق بالجملة وصحة إنجابية خارج الخدمة: عن تراجع المنجز الحداثي وتدهور مكاسب النساء
لن نجانب الصواب إذا قلنا إن إحدى الحلقات الأضعف في المجتمع التونسي هي قطعا المرأة. ولن نكون منصفين إذا قلنا إن نساء تونس استفدن مما تلا 14 جانفي 2011 وهذه باتت اليوم حقيقة معلومة لدى كل المتابعين للشأن العام وخاصة المهتمين بقضايا المرأة إجمالا.
والأكيد أن هذا القول لا يحتاج إلى مناسبة وإن كنا نذكره على إثر مناقشة ميزانية وزارة الأسرة المرأة والطفولة وكبار السن والتي من الواضح أنها محدودة ولا تغطي مهام هذه الوزارة كما أنها لا تتسق تماما مع الأدوار الكبيرة الموكولة لها والمهام المنوطة بعهدتها والمشاريع والبرامج التي يفترض أن تقوم بها وكذلك الأهداف التي ترمي إليها.
ولا نحتاج إلى براعة فائقة لندرك أن الميزانية المحدودة تعود قطعا إلى ضعف المالية العمومية وتراجع مواردها ولكن هذا يفسر أيضا بأن مكانة المرأة في المجتمع اليوم تراجعت بشكل كبيرة رغم كل الشعارات البراقة التي نرفعها دائما في المناسبات. فتكريس حقوق المرأة وضمان فعاليتها والتأكيد على نجاعة دورها وتأمين التمكين الاقتصادي لها وحمايتها من كل الأخطار والتهديدات هي مجرد مقولات للاستهلاك الإعلامي المناسباتي ليس إلا.
فنحن جميعا ندرك أن هناك تراجعا حادا بشأن وضعية النساء في تونس على امتداد العشرية الماضية. وهذا نلمسه بشكل واضح من خلال المعطيات والأرقام والأحداث المفزعة المتصلة بالقتل والاغتصاب وغيرها من القضايا.
والحصيلة اليوم ارتفاع منسوب العنف ضد النساء بشكل غير مسبوق مع مفارقة عجيبة وهي وجود قانون يجرّم هذا الفعل. وأصبحنا اليوم نتحدث عن ضرورة حسن تطبيق القانون الأساسي عدد 58 لسنة 2017 المتعلق بالقضاء على العنف ضد المرأة. ذاك الذي هلّلنا جميعا لدى المصادقة عليه لكنه ظل حبرا على ورق ولم يساو ثمن الورق الذي كتب عليه. بل من سخرية الأقدار أن ظاهرة قتل النساء تفاقمت على إثره بشكل خطير ومفزع.
أما بالنسبة إلى قضايا التحرش والاغتصاب وتزايد أعداد الأطفال المولودين خارج الزواج فحدّث ولا حرج ولعل الواقعة الأخيرة التي جدت بالساحل التونسي عن مقتل رضيع على يد أمه بشكل مأساوي وبمجرد أن رأت عيناه النور خير مثال دال على ما نقول.
أما بالنسبة إلى مؤسسة الزواج فلعلها تمر بأحلك فتراتها فهناك ارتفاع مهول لنسب الطلاق وللعنف بين الأزواج وقتل النساء من طرف أزواجهن. هذا كله إلى جانب عزوف واضح عن الزواج تقرّه الإحصائيات والمعطيات الرسمية. وهذه طبعا مؤشرات لا ينبغي أن نتغافل عن خطورتها تهدد سلامة المجتمع واستقراره وتوازنه باعتبار أن مؤسسة الأسرة كما هو معلوم هي اللبنة الأولى للمجتمع وسلامتها من سلامته.
وفي سياق متصل مازلنا نتابع الأوضاع الاقتصادية المتردية للنساء وبقدر ما كان التدهور في المجال المالي والاقتصادي العام كبيرا بقدر ما كانت تداعياته مضاعفة على النساء. ولعل الوقائع المتتالية للحوادث التي راحت ضحيتها النساء العاملات في القطاع الفلاحي واللواتي لم يتم حتى الآن تحسين أوضاعهن وإيجاد تشريعات تحميهن من الاستغلال بمختلف أوجهه عنوان دال أيضا على التدهور العام الذي تردت فيه المرأة التونسية. وثمة أيضا مواضيع مسكوت عنها من قبيل تراجع الاهتمام بالصحة الإنجابية في تونس وعاد شبح بعض المشاكل التي خلنا أنها انتهت منذ الستينات من القرن الماضي.
فالاهتمام بتحديد النسل وصحة الأم والطفل ومراقبة الحمل وتنظيم الإجهاض كلها مسائل باتت تحتاج إلى اهتمام خاص ويبدو أن مصالح الصحة الإنجابية خارج الخدمة اليوم خاصة في الأرياف والأحياء الشعبية حيث عاد إلى الصدارة موضوع إنجاب عدد كبير من الأطفال وتدهور وضعيات النساء ووفاة الأمهات الحوامل أو عند الولادة. وأصبحت هذه الظواهر متفشية بشكل كبير مع العلم أنها من ملامح المجتمعات المتخلفة.
مع التذكير أن تونس قد راهنت على قضايا التعليم والصحة وعلى قضايا المرأة منذ مرحلة بناء دولة الاستقلال وجعلت كل هذه المسائل في قلب المشروع التحديثي الذي تجندت له كل القوى وتوفرت الإرادة السياسية لتجسيده على أرض الواقع. وكانت ثمرته أهم منجز تحقق في تونس حتى اليوم ولا يمكن الاختلاف عليه.
هذا المنجز ذاته هو الذي حاربه اثوار ما بعد 14 جانفي وتداعوا لتقويضه بطرائق مختلفة والحقيقة أنهم نجحوا إلى حد كبير في ذلك حتى تراجعت وضعية المرأة وتآكلت مكتسباتها بشكل لافت. وأصبحت القضايا العميقة والجدية للنساء تتذيل الاهتمام العام. ولعلنا اليوم وربما أكثر من أي وقت مضى نحتاج إلى اطاهر حدادب جديد ومعاصر ليقدم لنا مقاربات تتسق مع واقعنا المتشابك بشأن وضعية المرأة في الأسرة والمجتمع.
التشغيل في تونس : «أم المعارك» التي لا بدّ من خوضها
لا شك ان احد الرهانات المطروحة على تونس اليوم هو التشغيل بكل ما يعنيه هذا الملف من تعقيد …