2023-12-04

طلاق بالجملة وصحة إنجابية خارج الخدمة: عن تراجع المنجز الحداثي وتدهور مكاسب النساء

لن‭ ‬نجانب‭ ‬الصواب‭ ‬إذا‭ ‬قلنا‭ ‬إن‭ ‬إحدى‭ ‬الحلقات‭ ‬الأضعف‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬التونسي‭ ‬هي‭ ‬قطعا‭ ‬المرأة‭. ‬ولن‭ ‬نكون‭ ‬منصفين‭ ‬إذا‭ ‬قلنا‭ ‬إن‭ ‬نساء‭ ‬تونس‭ ‬استفدن‭ ‬مما‭ ‬تلا‭ ‬14‭ ‬جانفي‭ ‬2011‭ ‬وهذه‭ ‬باتت‭ ‬اليوم‭ ‬حقيقة‭ ‬معلومة‭ ‬لدى‭ ‬كل‭ ‬المتابعين‭ ‬للشأن‭ ‬العام‭ ‬وخاصة‭ ‬المهتمين‭ ‬بقضايا‭ ‬المرأة‭ ‬إجمالا‭.‬

والأكيد‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬القول‭ ‬لا‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬مناسبة‭ ‬وإن‭ ‬كنا‭ ‬نذكره‭ ‬على‭ ‬إثر‭ ‬مناقشة‭ ‬ميزانية‭ ‬وزارة‭  ‬الأسرة‭ ‬المرأة‭ ‬والطفولة‭ ‬وكبار‭ ‬السن‭  ‬والتي‭ ‬من‭ ‬الواضح‭ ‬أنها‭ ‬محدودة‭ ‬ولا‭ ‬تغطي‭ ‬مهام‭ ‬هذه‭ ‬الوزارة‭ ‬كما‭ ‬أنها‭ ‬لا‭ ‬تتسق‭ ‬تماما‭ ‬مع‭ ‬الأدوار‭ ‬الكبيرة‭ ‬الموكولة‭ ‬لها‭ ‬والمهام‭ ‬المنوطة‭ ‬بعهدتها‭ ‬والمشاريع‭ ‬والبرامج‭ ‬التي‭ ‬يفترض‭ ‬أن‭ ‬تقوم‭ ‬بها‭ ‬وكذلك‭ ‬الأهداف‭ ‬التي‭ ‬ترمي‭ ‬إليها‭.‬

ولا‭ ‬نحتاج‭ ‬إلى‭ ‬براعة‭ ‬فائقة‭ ‬لندرك‭ ‬أن‭ ‬الميزانية‭ ‬المحدودة‭ ‬تعود‭ ‬قطعا‭ ‬إلى‭ ‬ضعف‭ ‬المالية‭ ‬العمومية‭ ‬وتراجع‭ ‬مواردها‭ ‬ولكن‭ ‬هذا‭ ‬يفسر‭ ‬أيضا‭ ‬بأن‭ ‬مكانة‭ ‬المرأة‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬اليوم‭ ‬تراجعت‭ ‬بشكل‭ ‬كبيرة‭ ‬رغم‭ ‬كل‭ ‬الشعارات‭ ‬البراقة‭ ‬التي‭ ‬نرفعها‭ ‬دائما‭ ‬في‭ ‬المناسبات‭. ‬فتكريس‭ ‬حقوق‭ ‬المرأة‭ ‬وضمان‭ ‬فعاليتها‭ ‬والتأكيد‭ ‬على‭ ‬نجاعة‭ ‬دورها‭ ‬وتأمين‭ ‬التمكين‭ ‬الاقتصادي‭ ‬لها‭ ‬وحمايتها‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬الأخطار‭ ‬والتهديدات‭ ‬هي‭ ‬مجرد‭ ‬مقولات‭ ‬للاستهلاك‭ ‬الإعلامي‭ ‬المناسباتي‭ ‬ليس‭ ‬إلا‭. ‬

فنحن‭ ‬جميعا‭ ‬ندرك‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬تراجعا‭ ‬حادا‭ ‬بشأن‭ ‬وضعية‭ ‬النساء‭ ‬في‭ ‬تونس‭ ‬على‭ ‬امتداد‭ ‬العشرية‭ ‬الماضية‭. ‬وهذا‭ ‬نلمسه‭ ‬بشكل‭ ‬واضح‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬المعطيات‭ ‬والأرقام‭ ‬والأحداث‭ ‬المفزعة‭ ‬المتصلة‭ ‬بالقتل‭ ‬والاغتصاب‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬القضايا‭.‬

والحصيلة‭ ‬اليوم‭ ‬ارتفاع‭ ‬منسوب‭ ‬العنف‭ ‬ضد‭ ‬النساء‭ ‬بشكل‭ ‬غير‭ ‬مسبوق‭ ‬مع‭ ‬مفارقة‭ ‬عجيبة‭ ‬وهي‭ ‬وجود‭ ‬قانون‭ ‬يجرّم‭ ‬هذا‭ ‬الفعل‭. ‬وأصبحنا‭ ‬اليوم‭ ‬نتحدث‭ ‬عن‭ ‬ضرورة‭ ‬حسن‭ ‬تطبيق‭ ‬القانون‭ ‬الأساسي‭ ‬عدد‭ ‬58‭ ‬لسنة‭ ‬2017‭ ‬المتعلق‭ ‬بالقضاء‭ ‬على‭ ‬العنف‭ ‬ضد‭ ‬المرأة‭. ‬ذاك‭ ‬الذي‭ ‬هلّلنا‭ ‬جميعا‭ ‬لدى‭ ‬المصادقة‭ ‬عليه‭ ‬لكنه‭ ‬ظل‭ ‬حبرا‭ ‬على‭ ‬ورق‭ ‬ولم‭ ‬يساو‭ ‬ثمن‭ ‬الورق‭ ‬الذي‭ ‬كتب‭ ‬عليه‭. ‬بل‭ ‬من‭ ‬سخرية‭ ‬الأقدار‭ ‬أن‭ ‬ظاهرة‭ ‬قتل‭ ‬النساء‭ ‬تفاقمت‭ ‬على‭ ‬إثره‭ ‬بشكل‭ ‬خطير‭ ‬ومفزع‭.‬

أما‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬قضايا‭ ‬التحرش‭ ‬والاغتصاب‭ ‬وتزايد‭ ‬أعداد‭ ‬الأطفال‭ ‬المولودين‭ ‬خارج‭ ‬الزواج‭ ‬فحدّث‭ ‬ولا‭ ‬حرج‭ ‬ولعل‭ ‬الواقعة‭ ‬الأخيرة‭ ‬التي‭ ‬جدت‭ ‬بالساحل‭ ‬التونسي‭ ‬عن‭ ‬مقتل‭ ‬رضيع‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬أمه‭ ‬بشكل‭ ‬مأساوي‭ ‬وبمجرد‭ ‬أن‭ ‬رأت‭ ‬عيناه‭ ‬النور‭ ‬خير‭ ‬مثال‭ ‬دال‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬نقول‭.‬

أما‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬مؤسسة‭ ‬الزواج‭ ‬فلعلها‭ ‬تمر‭ ‬بأحلك‭ ‬فتراتها‭ ‬فهناك‭ ‬ارتفاع‭ ‬مهول‭ ‬لنسب‭ ‬الطلاق‭ ‬وللعنف‭ ‬بين‭ ‬الأزواج‭ ‬وقتل‭ ‬النساء‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬أزواجهن‭. ‬هذا‭ ‬كله‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬عزوف‭ ‬واضح‭ ‬عن‭ ‬الزواج‭  ‬تقرّه‭ ‬الإحصائيات‭ ‬والمعطيات‭ ‬الرسمية‭. ‬وهذه‭ ‬طبعا‭ ‬مؤشرات‭ ‬لا‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬نتغافل‭ ‬عن‭ ‬خطورتها‭ ‬تهدد‭ ‬سلامة‭ ‬المجتمع‭ ‬واستقراره‭ ‬وتوازنه‭ ‬باعتبار‭ ‬أن‭ ‬مؤسسة‭ ‬الأسرة‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬معلوم‭ ‬هي‭ ‬اللبنة‭ ‬الأولى‭ ‬للمجتمع‭ ‬وسلامتها‭ ‬من‭ ‬سلامته‭. ‬

وفي‭ ‬سياق‭ ‬متصل‭ ‬مازلنا‭ ‬نتابع‭ ‬الأوضاع‭ ‬الاقتصادية‭ ‬المتردية‭ ‬للنساء‭ ‬وبقدر‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬التدهور‭ ‬في‭ ‬المجال‭ ‬المالي‭ ‬والاقتصادي‭ ‬العام‭ ‬كبيرا‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬تداعياته‭ ‬مضاعفة‭ ‬على‭ ‬النساء‭. ‬ولعل‭ ‬الوقائع‭ ‬المتتالية‭ ‬للحوادث‭ ‬التي‭ ‬راحت‭ ‬ضحيتها‭ ‬النساء‭ ‬العاملات‭ ‬في‭ ‬القطاع‭ ‬الفلاحي‭ ‬واللواتي‭ ‬لم‭ ‬يتم‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭ ‬تحسين‭ ‬أوضاعهن‭ ‬وإيجاد‭ ‬تشريعات‭ ‬تحميهن‭ ‬من‭ ‬الاستغلال‭ ‬بمختلف‭ ‬أوجهه‭ ‬عنوان‭ ‬دال‭ ‬أيضا‭ ‬على‭ ‬التدهور‭ ‬العام‭ ‬الذي‭ ‬تردت‭ ‬فيه‭ ‬المرأة‭ ‬التونسية‭. ‬وثمة‭ ‬أيضا‭ ‬مواضيع‭ ‬مسكوت‭ ‬عنها‭ ‬من‭ ‬قبيل‭ ‬تراجع‭ ‬الاهتمام‭ ‬بالصحة‭ ‬الإنجابية‭ ‬في‭ ‬تونس‭ ‬وعاد‭ ‬شبح‭ ‬بعض‭ ‬المشاكل‭ ‬التي‭ ‬خلنا‭ ‬أنها‭ ‬انتهت‭ ‬منذ‭ ‬الستينات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭. ‬

فالاهتمام‭ ‬بتحديد‭ ‬النسل‭ ‬وصحة‭ ‬الأم‭ ‬والطفل‭ ‬ومراقبة‭ ‬الحمل‭ ‬وتنظيم‭ ‬الإجهاض‭ ‬كلها‭ ‬مسائل‭ ‬باتت‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬اهتمام‭ ‬خاص‭  ‬ويبدو‭ ‬أن‭ ‬مصالح‭ ‬الصحة‭ ‬الإنجابية‭ ‬خارج‭ ‬الخدمة‭ ‬اليوم‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬الأرياف‭ ‬والأحياء‭ ‬الشعبية‭ ‬حيث‭ ‬عاد‭  ‬إلى‭ ‬الصدارة‭ ‬موضوع‭ ‬إنجاب‭ ‬عدد‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬الأطفال‭ ‬وتدهور‭ ‬وضعيات‭ ‬النساء‭ ‬ووفاة‭ ‬الأمهات‭ ‬الحوامل‭ ‬أو‭ ‬عند‭ ‬الولادة‭. ‬وأصبحت‭ ‬هذه‭ ‬الظواهر‭ ‬متفشية‭ ‬بشكل‭ ‬كبير‭ ‬مع‭ ‬العلم‭ ‬أنها‭ ‬من‭ ‬ملامح‭ ‬المجتمعات‭ ‬المتخلفة‭.‬

مع‭ ‬التذكير‭ ‬أن‭ ‬تونس‭ ‬قد‭ ‬راهنت‭ ‬على‭ ‬قضايا‭ ‬التعليم‭ ‬والصحة‭ ‬وعلى‭ ‬قضايا‭ ‬المرأة‭ ‬منذ‭ ‬مرحلة‭ ‬بناء‭ ‬دولة‭ ‬الاستقلال‭ ‬وجعلت‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬المسائل‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬المشروع‭ ‬التحديثي‭ ‬الذي‭ ‬تجندت‭ ‬له‭ ‬كل‭ ‬القوى‭ ‬وتوفرت‭ ‬الإرادة‭ ‬السياسية‭ ‬لتجسيده‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬الواقع‭. ‬وكانت‭ ‬ثمرته‭ ‬أهم‭ ‬منجز‭ ‬تحقق‭ ‬في‭ ‬تونس‭ ‬حتى‭ ‬اليوم‭ ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬الاختلاف‭ ‬عليه‭.‬

هذا‭ ‬المنجز‭ ‬ذاته‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬حاربه‭ ‬اثوار‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬14‭ ‬جانفي‭ ‬وتداعوا‭ ‬لتقويضه‭ ‬بطرائق‭ ‬مختلفة‭ ‬والحقيقة‭ ‬أنهم‭ ‬نجحوا‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬حتى‭  ‬تراجعت‭ ‬وضعية‭ ‬المرأة‭ ‬وتآكلت‭ ‬مكتسباتها‭ ‬بشكل‭ ‬لافت‭. ‬وأصبحت‭ ‬القضايا‭ ‬العميقة‭ ‬والجدية‭ ‬للنساء‭ ‬تتذيل‭ ‬الاهتمام‭ ‬العام‭. ‬ولعلنا‭ ‬اليوم‭ ‬وربما‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬وقت‭ ‬مضى‭ ‬نحتاج‭ ‬إلى‭ ‬اطاهر‭ ‬حدادب‭ ‬جديد‭ ‬ومعاصر‭ ‬ليقدم‭ ‬لنا‭ ‬مقاربات‭ ‬تتسق‭ ‬مع‭ ‬واقعنا‭ ‬المتشابك‭ ‬بشأن‭ ‬وضعية‭ ‬المرأة‭ ‬في‭ ‬الأسرة‭ ‬والمجتمع‭.‬

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

السيادة الغذائية رهان الجمهورية ..أيضا !

 تعيش تونس هذه الأيام ديناميكية مهمة تشمل الجانب السياسي والاقتصادي والاجتماعي ويمكن اعتما…