البيرُوقراطية الإدارية في تونس : «مدمّرة» ومحبطة للعزائم..!
أمام صعوبة الظرف الاقتصادي والاجتماعي وارتفاع نسبة البطالة خاصة في صفوف حاملي الشهادات العليا ونظرا لصعوبة انتدابهم وإدماج بعض الاختصاصات صلب الوظيفة العمومية عملت بلادنا منذ سنوات على إيجاد حلول بديلة تمكن من تقليص نسبة البطالة واحتوائها فكان التشجيع على الانتصاب للحساب الخاص الحل الأقرب الذي سعت لإرسائه وعملت على تأصيله خيارا للشباب المعطّل من مختلف الاختصاصات .
فقد بلغت نسبة البطالة خلال الثلاثي الثاني من السنة الجارية 15,6 بالمائة مقابل 16.1 بالمائة في الثلاثي الأول من نفس السنة و15,3 بالمائة في الثلاثي الثاني من سنة 2022، وفق المعهد الوطني للإحصاء.
وارتفعت نسبة البطالة بين حاملي الشهائد العليا نسبيا حيث بلغت 23,7 بالمائة بالثلاثي الثاني من سـنة 2023 مقابل 23,1 بالمائة خلال الثلاثي الأول من سـنة 2023، وفق المعهد.
وللتقليص من تمدد جحافل المعطلين عن العمل سنويا عملت عديد الأطراف المتدخلة في المنظومة الاقتصادية على تشجيع الشباب على الانتصاب للحساب الخاص خاصة أمام انسداد الآفاق للالتحاق بالوظيفة العمومية التي تشكو تضخما في عدد المنتسبين إليها بما يفوق 650 ألف ناهيك عن غلق باب الانتداب بالوظيفة العمومية منذ سنوات مما يجعل الالتحاق بركب الموظفين صعب المنال لذلك اعتبرت عديد الأطراف أن الانتصاب للحساب الخاص يعتبر الحل الأمثل للنهوض بالاقتصاد إذا ما تم توفير عنصري الإحاطة الشاملة والتسلّح بمنظومة قانونية وهيكلة إدارية تعنى بتشجيع المبادرة الخاصة هذا بالإضافة إلى امتيازات الاستثمار التي توفرها الدولة .
قد تكون المبادرة الخاصّة حلا فعليا للعديد من الشباب يجنبهم البطالة التي لا يشك أحد في أن لها انعكاساتها السلبية على فئة كبرى من الشباب خاصّة ذوي النفسية الهشّة فمنهم من ألقى بنفسه في البحر قصد الهجرة ولكنه مات وهو يحمل أمل الاستقرار والاستقلالية بالبحث عن حياة كريمة … والأمثلة متعددة وعديدة وأكثر من أن تحصى أو تعدّ حيث يعتبر خبراء الاقتصاد أن الانتصاب للحساب الخاص يمكّن من الترفيع في نسب التشغيل ولكن الأهم هو التمويل لعديد المشاريع من قبل المؤسسات البنكية نظرا لان الباعثين الشبان ليس لديهم تمويل ذاتي وأهمية الإحاطة المتواصلة بأصحاب المشاريع في مرحلة تركيز المشروع وتمكينهم من التسويق لمنتوجاتهم وخدماتهم في بداياتهم الأولى. فالمبادرة الخاصة تعتبر الحل الأمثل لإنعاش الدورة الاقتصادية و امتصاص البطالة من خلال فتح مواطن شغل جديدة ….ولكن المعطيات على ارض الواقع تشي بمعاناة كبيرة لشق كبير من باعثي المشاريع تبدأ قبل بعث المشروع وتستنزف المقبل عليه ماديا ومعنويا.
بسبب البيروقراطية الإدارية التي حرمت البلاد من مشاريع ومبادرات كان بالإمكان أن تنفعها فقد عدل العديد من الشباب عن فكرة بعث مشروع بسبب التعطيلات الإدارية ومتاهة اللهث وراء تكديس الوثائق والتنقل من ادراة إلى أخرى مثلما عبّر عن ذلك حاتم بن جميع من الدكاترة المعطلين عن العمل حيث أكد انه على اطلاع بمعاناة العديد من أصدقائه الذين كانت لديهم تجارب في رحلة بعث المشاريع بعضهم ينتظر لمدّة تفوق 3 أشهر للحصول على وثيقة وبعضهم يتكبد عناء السفر إلى العاصمة لاستخراج بعض الوثائق مؤكدا في هذا السياق على المركزية المقيتة وكذبة ا اللامركزية بفالتنقل من الولايات إلى المركز له كلفته الباهظة ماديا للعديد منهم.
واعتبر أن الوضع الكارثي الذي يعرفه أداء الإدارة اليوم متواصل في ظل غياب حزمة الإصلاحات ذلك أن الوضع المرضي الذي يطبع أداء الإدارة ببلادنا يعود بالأساس إلى المنظومة الإدارية المعقدة التي تتميز بكثرة الشكليات وغياب المرونة وتضارب النصوص القانونية فقد كانت منظومة إدارية موجهة لخدمة صالح فئة معينة قبل 14 جانفي أي لخدمة العائلة الحاكمة وبقيت بعد الثورة كما هي لم يقع تطويرها وتغييرها و المرور إلى منظومة متطورة نتيجة الجدال السياسي والتجاذبات التي عرفتها البلاد والتي عطلت مشاريع الإصلاح ….
ويؤكد محدثنا أن التعقيدات الإدارية معقدة ومرهقة تستنزف الكلّ وعلى جميع الأصعدة ماديا ومعنويا. فالبيروقراطية الإدارية تعدّ معضلة في بلادنا منذ قديم الزمان فعديد المشاريع الكبرى قُبِرَتْ نتيجة كثرة الوثائق المطلوبة في تكوين الملفات والعديد من الصفقات أُلغيت نتيجة هذا السلوك البيروقراطي وعديد المبادرات الجمعياتية تعطّلت… كما أن التسهيلات الإدارية التي قد تحصل هنا وهناك تكاد توحي بأمر آخر أكثر مرارة ألا وهو المحسوبية التي خلنا أننا قد ودّعناها ولكنها مازالت أمرا واقعا إلى حين …..بعض الشبان تحدثوا عن قصص معاناتهم في التمكن من بلوغ أهدافهم التي رسموها لأنفسهم بتمكنهم من إرساء مشاريع ناجحة بكل المعايير ولكنهم اصطدموا بأول حاجز وهو المطالبة بتوفير حزمة من الوثائق ومعاناة الانتظار وكلها صعوبات جمّة والتي اعترضتهم فحالت دون بلوغهم الحد الأدنى المنشود.
فلقد تعالت الأصوات المنادية بضرورة اتخاذ إجراءات عاجلة وتدابير علاجية للحد من نزيف الانتظار والتعقيدات الإدارية، ولعل ذلك ما يجعل ملف إصلاح المنظومة الإدارية مطلبا ملحا لكننا لم نلمس أي جدية في ايلاء هذا الملف ما يستحقّه من أهمية في الطرح والتشخيص والعلاج وحان الوقت لاعتماد معايير ومواصفات من شأنها أن تنهض بتجويد وتعصير عمل الإدارة وتقطع مع الروتين الإداري القاتل الذي مازال إلى حد كتابة هذه الأسطر مصدر معاناة شق كبير من المقبلين الجدد على بعث المشاريع ولعل ما جعلنا نعود الى موضوع البيروقراطية الإدارية التي أسالت الكثير من الحبر وكانت محل انتقادات هي التشكايات المتواصلة لمختلف الفئات الاجتماعية (باعثي المشاريع) من طول الانتظار وضبابية المعاملات وغياب المعلومة عند الاستفسار وهي الوضعية التي يعيشها شق كبير من الشباب…
حيث تحدثت إحداهن وهي متحصلة على شهادة الدكتوراه من المعطلين عن العمل أنها خيّرت سلك طريق إثبات الذات والقطع مع عقلية امسمار في حيطب من خلال التوجّه نحو بعث مشروع خاصة وان الدولة تشجع على الانتصاب للحساب الخاص ولكنها فوجئت بواقع مرير لا يعكس البتة ما يتم الترويج له نظريا وأكدت أنها استنزفت ماديا ونفسيا قبل بعث المشروع بسبب التعقيدات الإدارية ولم تكن تتوقع أنها قادت نفسها إلى المهلكة بسبب التفكير في بعث مشروع حيث ترامت ديونها قبل انطلاق المشروع وهي مطالبة بتسديدها في آجال معينة ولكن الحصول على بعض الوثائق يتطلب الكثير من الانتظار واعتبرت في الآن ذاته أن الخدمات الادارية في تونس منفّرة للاستثمار وهي تفكر حاليا وبكل جدية في الهجرة بحثا عن فضاء أرحب … معتبرة ان البيروقراطية الإدارية القاتلة التي تسود العديد من مؤسسات الدولة ،لم يتم التخلص منها بعد ومازالت تمثل كابوسا حقيقيا يعاني منه الجميع إذ يتطلب الحصول على المعلومة أو استخراج وثيقة … اتباع مسار مطول في الانتقال من إدارة إلى إدارة ومن ولاية إلى أخرى .
إن االعبرة بالخواتيمب فكل الوعو د التي قدمت لتعصير الإدارة كانت زائفة والى حد يومنا هذا وبرغم بعض الإجراءات المتخذة هنا وهناك كمراجعة بعض القوانين وصدور بعض المذكرات و المناشير التي لا تتجاوز أهميتها الحبر الذي كتبت به فإننا لم نلمس جدية في ايلاء هذا الملف ما يستحقّه من أهمية في الطرح والتشخيص والعلاج ، رغم بعض المجهودات التي لا يمكن إنكارها والتي ورغم أهميتها إلا أنها لم تبرز أمام الكم الهائل من المشاكل التي مازالت تعاني منها الإدارة ببلادنا وكلها منفرة للاستثمار ولأصحاب المشاريع ….
واحدة من الخطوات الهامّة التي ينبغي أن ترتكز عليها عملية الإصلاح المنشودة : منع استعمال الهواتف الذكية بالمؤسسات التربوية ..
يعاني الوسط التربوي بمختلف مكوناته وعلى جميع المستويات من مشاكل لا تكاد تحصى ولا تعدّ فضلا…