2023-11-30

دخل في عطالة وفقد حيويته الفضاء العام وقد دخل السبات الشتوي

إذا‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬فضل‭ ‬يحسب‭ ‬للثورة‭ ‬التونسية‭ ‬فهو‭ ‬بكل‭ ‬تأكيد‭ ‬تلك‭ ‬الدينامية‭ ‬التي‭ ‬نزعم‭ ‬أنها‭ ‬غير‭ ‬مسبوقة‭ ‬في‭ ‬الفضاء‭ ‬العام‭ ‬كما‭ ‬يعرّفه‭ ‬هابر‭ ‬ماس‭ ‬حيث‭ ‬عاش‭ ‬التونسيون‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬االإيفورياب‭ ‬العامة‭ ‬وبات‭ ‬المشهد‭ ‬التونسي‭ ‬أغورا‭ ‬بالمعنى‭ ‬الحرفي‭ ‬للكلمة‭. ‬وفيه‭ ‬تبادل‭ ‬التونسيون‭ ‬بمختلف‭ ‬فئاتهم‭ ‬نخبا‭ ‬وفاعلين‭ ‬سياسيين‭ ‬وإعلاميين‭ ‬وعموم‭ ‬الشعب‭ ‬الحوار‭ ‬بطرائق‭ ‬مختلفة‭ ‬وأدلى‭ ‬الجميع‭ ‬بدلوه‭ ‬في‭ ‬المنابر‭ ‬الإعلامية‭ ‬التي‭ ‬انفتحت‭ ‬بشكل‭ ‬مذهل‭ ‬أمام‭ ‬الجميع‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬حدا‭ ‬بشاعرنا‭ ‬الراحل‭ ‬محمد‭ ‬الصغير‭ ‬أولاد‭ ‬احمد‭ ‬أن‭ ‬يقول‭ ‬ا‭ ‬لقد‭ ‬منحتنا‭ ‬الثورة‭ ‬حرية‭ ‬بلا‭ ‬سقفب‭.‬

وبالتأكيد‭ ‬كان‭ ‬ذاك‭ ‬الزخم‭ ‬ايجابيا‭ ‬وكانت‭ ‬شعاراته‭ ‬براقة‭ ‬استلهمت‭ ‬أبرز‭ ‬مقولاتها‭ ‬االشعب‭ ‬يريدب‭ ‬من‭ ‬شاعر‭ ‬إرادة‭ ‬الحياة‭ ‬الشابي‭ ‬وكانت‭ ‬المشهدية‭ ‬عالية‭ ‬في‭ ‬وسائل‭ ‬الإعلام‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تطارح‭ ‬الأفكار‭ ‬والرؤى‭ ‬والخوض‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬المسائل‭ ‬بدءا‭ ‬بقلق‭ ‬الهوية‭ ‬والكفر‭ ‬والإلحاد‭ ‬مرورا‭ ‬بتعدد‭ ‬الزوجات‭ ‬وصولا‭ ‬إلى‭ ‬النظام‭ ‬السياسي‭ ‬والانتخابي‭ ‬كلها‭ ‬مسائل‭ ‬يخوض‭ ‬فيها‭ ‬الخائضون‭. ‬لكن‭ ‬الأكيد‭ ‬أيضا‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬لم‭ ‬يجلب‭ ‬للتونسيين‭ ‬الوفرة‭ ‬والرخاء‭ ‬ووجدوا‭ ‬أنفسهم‭ ‬بعد‭ ‬حوالي‭ ‬عقد‭ ‬ونيف‭ ‬أمام‭ ‬قدرهم‭ ‬المحتوم‭ : ‬قدرة‭ ‬شرائية‭ ‬متدهورة‭ ‬ونقص‭ ‬حاد‭ ‬في‭ ‬ضروريات‭ ‬الحياة‭ ‬ويأس‭ ‬وإحباط‭ ‬ومشهد‭ ‬قاتم‭ ‬وضجر‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬ومن‭ ‬السياسة‭ ‬في‭ ‬المقام‭ ‬الأول‭. ‬

إذن‭ ‬بعد‭ ‬سنوات‭ ‬وجدنا‭ ‬أنفسنا‭ ‬أمام‭ ‬حالة‭ ‬كافكاوية‭ ‬سئم‭ ‬فيها‭ ‬التونسيون‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تحولت‭ ‬أحلامهم‭ ‬الشاهقة‭ ‬إلى‭ ‬كوابيس‭ ‬تطاردهم‭ ‬في‭ ‬اليقظة‭ ‬قبل‭ ‬المنام‭. ‬وأصبحوا‭ ‬يتقاطعون‭ ‬مع‭ ‬بطل‭ ‬رواية‭  ‬ا‭ ‬الضجرب‭ ‬في‭ ‬يومياته‭ ‬المملّة‭ ‬وحياته‭ ‬التي‭ ‬بلا‭ ‬أفق‭.‬

وبالتدريج‭ ‬دخلنا‭ ‬جميعا‭ ‬إلى‭ ‬نفق‭ ‬مظلم‭ ‬لا‭ ‬بصيص‭ ‬أمل‭ ‬يلوح‭ ‬في‭ ‬آخره‭ ‬وكأن‭ ‬الفعل‭ ‬السياسي‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬يعني‭ ‬أحدا‭ ‬من‭ ‬عموم‭ ‬التونسيين‭ ‬الباحثين‭ ‬فقط‭ ‬عن‭ ‬لقمة‭ ‬الخبز‭ ‬وعن‭ ‬الأمان‭ ‬النفسي‭ ‬والاجتماعي‭. ‬

وبالتالي‭ ‬فإننا‭ ‬نعاين‭ ‬الآن‭ ‬كنتاج‭ ‬لكل‭ ‬هذا‭ ‬موتا‭ ‬سريريا‭ ‬للمشهد‭ ‬السياسي‭ ‬التونسي‭ ‬وقد‭ ‬دخل‭ ‬الفضاء‭ ‬العام‭ ‬مرحلة‭ ‬السبات‭ ‬الشتوي‭ ‬حرفيا‭. ‬

فالأجسام‭ ‬الوسيطة‭ ‬أو‭ ‬التنظيمات‭ ‬الحزبية‭ ‬تآكلت‭ ‬وأصبحت‭ ‬مجرد‭ ‬رجع‭ ‬صدى‭ ‬ليس‭ ‬إلا‭ ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬اغلب‭ ‬الأحزاب‭ ‬عاجزة‭ ‬اليوم‭ ‬عن‭ ‬تجميع‭ ‬مظاهرة‭ ‬كبرى‭ ‬في‭ ‬الشارع‭ ‬التونسي‭ ‬ولعل‭ ‬وجود‭ ‬قيادات‭ ‬حزبية‭ ‬معروفة‭ ‬في‭ ‬السجن‭ ‬بتهم‭ ‬متعددة‭ ‬وعجز‭ ‬أحزابها‭ ‬عن‭ ‬تحشيد‭ ‬الجماهير‭ ‬لدعمها‭ ‬في‭ ‬الشارع‭ ‬خير‭ ‬دليل‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬نقول‭. ‬ويمكن‭ ‬الجزم‭ ‬بأن‭ ‬عصر‭ ‬التضامن‭ ‬الآلي‭ ‬في‭ ‬تونس‭ ‬قد‭ ‬انتهى‭ ‬إلى‭ ‬غير‭ ‬رجعة‭. ‬وثمة‭ ‬عدم‭ ‬اكتراث‭ ‬واضح‭ ‬لا‭ ‬لبس‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬عموم‭ ‬التونسيين‭ ‬إزاء‭ ‬النشاط‭ ‬السياسي‭ ‬عموما‭ ‬والحزبي‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الخصوص‭ ‬وكأن‭ ‬التونسي‭ ‬يعيش‭ ‬حالة‭ ‬نفور‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬السياسيين‭. ‬ولعل‭ ‬المحطات‭ ‬الانتخابية‭ ‬التي‭ ‬عشناها‭ ‬ونحن‭ ‬قاب‭ ‬قوسين‭ ‬أو‭ ‬أدنى‭ ‬من‭ ‬استحقاقات‭ ‬مهمة‭ ‬عكست‭ ‬حالة‭ ‬العزوف‭ ‬العام‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬غياب‭ ‬الاهتمام‭ ‬بمجلس‭ ‬النواب‭ ‬وبمداولاته‭ ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬فترة‭ ‬سابقة‭ ‬حديث‭ ‬الناس‭ ‬يختصر‭ ‬الوضعية‭ ‬بأكملها‭.‬

أما‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬النخب‭ ‬الثقافية‭ ‬التونسية‭ ‬فيمكن‭ ‬القول‭ ‬إنها‭  ‬انكفأت‭ ‬على‭ ‬نفسها‭  ‬ولم‭ ‬يعد‭ ‬لها‭ ‬ذلك‭ ‬الحضور‭ ‬المؤثر‭ ‬والفاعل‭ ‬و‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬انغلق‭ ‬الفضاء‭ ‬الأكاديمي‭  ‬بشكل‭ ‬غير‭ ‬مسبوق‭ ‬حتى‭ ‬أننا‭ ‬بتنا‭ ‬نستمع‭ ‬إلى‭ ‬وقائع‭ ‬غريبة‭ ‬تحدث‭ ‬داخل‭ ‬أسوار‭ ‬الجامعة‭ ‬من‭ ‬قبيل‭ ‬وصول‭ ‬الخلافات‭  ‬بين‭ ‬الطلبة‭ ‬والأساتذة‭  ‬إلى‭ ‬مكافحة‭ ‬الإجرام‭ ‬وهو‭ ‬أمر‭ ‬كارثي‭ ‬حقا‭.‬فلا‭ ‬إنتاج‭ ‬معرفة‭ ‬ولا‭ ‬تفاعل‭ ‬بين‭ ‬الجامعة‭ ‬والمجتمع‭ ‬ولا‭ ‬مواقف‭ ‬واضحة‭ ‬من‭ ‬الشأن‭ ‬الداخلي‭ ‬ولا‭ ‬حتى‭ ‬الخارجي‭ ‬ما‭ ‬عدا‭ ‬قطعا‭ ‬بعض‭ ‬الاستثناءات‭ ‬من‭ ‬قبيل‭ ‬الشاذ‭ ‬الذي‭ ‬يؤكد‭ ‬القاعدة‭. ‬

الأمر‭ ‬ذاته‭ ‬ينطبق‭ ‬على‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني‭ ‬الذي‭ ‬يعيش‭ ‬هو‭ ‬الآخر‭ ‬سباته‭ ‬الشتوي‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬خفتت‭ ‬أصوات‭ ‬كثيرة‭ ‬سواء‭ ‬لمنظمات‭ ‬او‭ ‬لشخصيات‭ ‬فاعلة‭ ‬واقتصر‭ ‬الفعل‭ ‬على‭  ‬بعض‭ ‬الأنشطة‭  ‬الروتينية‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬من‭ ‬قبيل‭ ‬تظاهرات‭ ‬صالونات‭ ‬تقتصر‭ ‬على‭ ‬حضور‭ ‬نوعي‭ ‬لا‭ ‬يجد‭ ‬صدى‭ ‬في‭ ‬المشهد‭ ‬العام‭ ‬ولا‭ ‬يؤثر‭ ‬فيه‭ ‬قطعا‭. ‬

فالقضايا‭ ‬الكبرى‭ ‬التي‭ ‬تطرح‭ ‬بجدية‭ ‬علينا‭ ‬نحن‭ ‬التونسيون‭ ‬والتحديات‭ ‬الكبرى‭ ‬التي‭ ‬تواجه‭ ‬بلادنا‭ ‬اقتصاديا‭ ‬وسياسيا‭ ‬واجتماعيا‭ ‬وثقافيا‭ ‬يتم‭ ‬الصمت‭ ‬إزاءها‭ ‬والتغاضي‭ ‬عنها‭ ‬وكأنها‭ ‬تعني‭ ‬شعبا‭ ‬آخر‭ ‬وهذه‭ ‬مفارقة‭ ‬عجيبة‭ ‬لعل‭ ‬بعض‭ ‬الأخصائيين‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬علم‭ ‬النفس‭ ‬والاجتماع‭ ‬يتولون‭ ‬دراستها‭ ‬حتى‭ ‬يتبين‭ ‬الخيط‭ ‬الأبيض‭ ‬من‭ ‬الخيط‭ ‬الأسود‭. ‬

وبدوره‭ ‬خفت‭ ‬صوت‭ ‬الإعلام‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يحتضن‭ ‬كل‭ ‬تلك‭ ‬الدينامية‭ ‬التي‭ ‬تحدثنا‭ ‬عنها‭ ‬في‭ ‬مستهل‭ ‬المقال‭ ‬وباتت‭ ‬المنابر‭ ‬السياسية‭ ‬أشبه‭ ‬بحديث‭ ‬المقاهي‭ ‬بين‭ ‬الأصدقاء‭ ‬لا‭ ‬تميز‭ ‬ولا‭ ‬فرادة‭ ‬ولا‭ ‬ابتكار‭ ‬ولا‭ ‬جدية‭ ‬بل‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الأشخاص‭ ‬يلوكون‭ ‬ما‭ ‬يجود‭ ‬به‭ ‬الفضاء‭ ‬الأزرق‭ ‬لا‭ ‬غير‭. ‬وتركوا‭ ‬المجال‭ ‬أمام‭ ‬صنّاع‭ ‬المحتوى‭ ‬الترفيهي‭ ‬الذين‭ ‬تجاوزوا‭ ‬كل‭ ‬الخطوط‭ ‬الحمراء‭ ‬والزرقاء‭.‬

وفي‭ ‬الأثناء‭ ‬يغرق‭ ‬التونسيون‭ ‬في‭ ‬دائرة‭ ‬من‭ ‬القلق‭ ‬والتوجس‭ ‬بشأن‭ ‬مستقبل‭ ‬ابنائهم‭ ‬ومصير‭ ‬بلادهم‭. ‬

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

السيادة الغذائية رهان الجمهورية ..أيضا !

 تعيش تونس هذه الأيام ديناميكية مهمة تشمل الجانب السياسي والاقتصادي والاجتماعي ويمكن اعتما…