دخل في عطالة وفقد حيويته الفضاء العام وقد دخل السبات الشتوي
إذا كان من فضل يحسب للثورة التونسية فهو بكل تأكيد تلك الدينامية التي نزعم أنها غير مسبوقة في الفضاء العام كما يعرّفه هابر ماس حيث عاش التونسيون حالة من االإيفورياب العامة وبات المشهد التونسي أغورا بالمعنى الحرفي للكلمة. وفيه تبادل التونسيون بمختلف فئاتهم نخبا وفاعلين سياسيين وإعلاميين وعموم الشعب الحوار بطرائق مختلفة وأدلى الجميع بدلوه في المنابر الإعلامية التي انفتحت بشكل مذهل أمام الجميع وهو ما حدا بشاعرنا الراحل محمد الصغير أولاد احمد أن يقول ا لقد منحتنا الثورة حرية بلا سقفب.
وبالتأكيد كان ذاك الزخم ايجابيا وكانت شعاراته براقة استلهمت أبرز مقولاتها االشعب يريدب من شاعر إرادة الحياة الشابي وكانت المشهدية عالية في وسائل الإعلام من خلال تطارح الأفكار والرؤى والخوض في كل المسائل بدءا بقلق الهوية والكفر والإلحاد مرورا بتعدد الزوجات وصولا إلى النظام السياسي والانتخابي كلها مسائل يخوض فيها الخائضون. لكن الأكيد أيضا أن كل هذا لم يجلب للتونسيين الوفرة والرخاء ووجدوا أنفسهم بعد حوالي عقد ونيف أمام قدرهم المحتوم : قدرة شرائية متدهورة ونقص حاد في ضروريات الحياة ويأس وإحباط ومشهد قاتم وضجر من كل شيء ومن السياسة في المقام الأول.
إذن بعد سنوات وجدنا أنفسنا أمام حالة كافكاوية سئم فيها التونسيون من كل شيء بعد أن تحولت أحلامهم الشاهقة إلى كوابيس تطاردهم في اليقظة قبل المنام. وأصبحوا يتقاطعون مع بطل رواية ا الضجرب في يومياته المملّة وحياته التي بلا أفق.
وبالتدريج دخلنا جميعا إلى نفق مظلم لا بصيص أمل يلوح في آخره وكأن الفعل السياسي لم يعد يعني أحدا من عموم التونسيين الباحثين فقط عن لقمة الخبز وعن الأمان النفسي والاجتماعي.
وبالتالي فإننا نعاين الآن كنتاج لكل هذا موتا سريريا للمشهد السياسي التونسي وقد دخل الفضاء العام مرحلة السبات الشتوي حرفيا.
فالأجسام الوسيطة أو التنظيمات الحزبية تآكلت وأصبحت مجرد رجع صدى ليس إلا حتى أن اغلب الأحزاب عاجزة اليوم عن تجميع مظاهرة كبرى في الشارع التونسي ولعل وجود قيادات حزبية معروفة في السجن بتهم متعددة وعجز أحزابها عن تحشيد الجماهير لدعمها في الشارع خير دليل على ما نقول. ويمكن الجزم بأن عصر التضامن الآلي في تونس قد انتهى إلى غير رجعة. وثمة عدم اكتراث واضح لا لبس فيه من عموم التونسيين إزاء النشاط السياسي عموما والحزبي على وجه الخصوص وكأن التونسي يعيش حالة نفور من كل السياسيين. ولعل المحطات الانتخابية التي عشناها ونحن قاب قوسين أو أدنى من استحقاقات مهمة عكست حالة العزوف العام. كما أن غياب الاهتمام بمجلس النواب وبمداولاته وهو الذي كان في فترة سابقة حديث الناس يختصر الوضعية بأكملها.
أما بالنسبة إلى النخب الثقافية التونسية فيمكن القول إنها انكفأت على نفسها ولم يعد لها ذلك الحضور المؤثر والفاعل و على سبيل المثال انغلق الفضاء الأكاديمي بشكل غير مسبوق حتى أننا بتنا نستمع إلى وقائع غريبة تحدث داخل أسوار الجامعة من قبيل وصول الخلافات بين الطلبة والأساتذة إلى مكافحة الإجرام وهو أمر كارثي حقا.فلا إنتاج معرفة ولا تفاعل بين الجامعة والمجتمع ولا مواقف واضحة من الشأن الداخلي ولا حتى الخارجي ما عدا قطعا بعض الاستثناءات من قبيل الشاذ الذي يؤكد القاعدة.
الأمر ذاته ينطبق على المجتمع المدني الذي يعيش هو الآخر سباته الشتوي بعد أن خفتت أصوات كثيرة سواء لمنظمات او لشخصيات فاعلة واقتصر الفعل على بعض الأنشطة الروتينية التي هي من قبيل تظاهرات صالونات تقتصر على حضور نوعي لا يجد صدى في المشهد العام ولا يؤثر فيه قطعا.
فالقضايا الكبرى التي تطرح بجدية علينا نحن التونسيون والتحديات الكبرى التي تواجه بلادنا اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا وثقافيا يتم الصمت إزاءها والتغاضي عنها وكأنها تعني شعبا آخر وهذه مفارقة عجيبة لعل بعض الأخصائيين في مجال علم النفس والاجتماع يتولون دراستها حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود.
وبدوره خفت صوت الإعلام الذي كان يحتضن كل تلك الدينامية التي تحدثنا عنها في مستهل المقال وباتت المنابر السياسية أشبه بحديث المقاهي بين الأصدقاء لا تميز ولا فرادة ولا ابتكار ولا جدية بل مجموعة من الأشخاص يلوكون ما يجود به الفضاء الأزرق لا غير. وتركوا المجال أمام صنّاع المحتوى الترفيهي الذين تجاوزوا كل الخطوط الحمراء والزرقاء.
وفي الأثناء يغرق التونسيون في دائرة من القلق والتوجس بشأن مستقبل ابنائهم ومصير بلادهم.
عن الأمن العام بالبلاد : التصدّي للجريمة وضمان أمان المواطنين..
مما لا شك فيه ان منسوب العنف قد ارتفع بشكل غير مسبوق في تونس وهذا يعود لأسباب كثيرة سنفصل …