كتاب «تحت قبة البرلمان» لسعاد السنوسي: بريق الركح وعتمة الكواليس
ما الذي يحدث تحت القبة ؟ وهل تبوح لنا الكاميرا بكل ما يدور في الردهات والأروقة وداخل المكاتب ؟ وهل ثمة مخاتلة ماكرة بين ضوء الركح وعتمة الكواليس؟
هي أسئلة تدور في ذهن القارئ بمجرد أن يشرع في تصفح كتاب اتحت قبة البرلمان بين الركح والكواليسب للكاتبة سعاد السنوسي الصادر مؤخرا عن ليدرز.
وتبوح الأسئلة تدريجيا بأسرارها وتشي بالإجابات ونحن نقرأ هذا الكتاب الذي يضعنا منذ البدء في مخاتلة تصنيفه وغواية سبر أغواره وهو الذي يبحث في دهاليز المؤسسة التشريعية.
فهذا الكتاب ليس نصا أدبيا بالمعنى المعلوم للأجناس الأدبية فهو ليس سردا روائيا أو قصصيا ولا يمكن إدراجه أيضا ضمن الترجمة الذاتية او كتب السيرة وليس أيضا نصا أكاديميا قانونيا جافا وهذا في الحقيقة ما يصنع فرادته وتميزه.
وإذا علمنا البعض من ملامح شخصية الكاتبة وسيرتها تتجلى لنا الكثير من خبايا وخصائص هذا النص فسعاد السنوسي هي ذات خلفية قانونية وحقوقية متخرجة من كلية الحقوق والعلوم الإنسانية ولها تجربة مهمة في مجال العمل البرلماني من داخل مجلس النواب وكواليسه أيضا فقد عملت كمستشارة درجة أولى مديرة عامة مكلفة بالجلسات العامة وصياغة النصوص القانونية إلى غاية فيفري الماضي.
ولها مجموعة من الشهادات في الحقل البرلماني على غرار شهادة التخصص في تنظيم العمل البرلماني وشهادة تكوين المستشارين البرلمانيين حاصلة عليها من البرلمان الاسباني إلى جانب شهادة مكون برلماني.
وهذه السيرة الذاتية المهمة هي بالتأكيد من العوامل التي تحفز القارئ على الإطلاع على هذا الكتاب لاسيما وان المكتبة التونسية تفتقر فعلا إلى هذه النوعية من الكتب.
فقد ظلت المؤسسة التشريعية خارج دائرة الأضواء على امتداد عقود من الزمن وكان الاهتمام بها لا يتجاوز تقريبا فترة مناقشة الميزانية التي تتم عادة في آخر السنة حيث يتم التداول بشأنها في وسائل الإعلام سواء كان هذا زمن الزعيم الحبيب بورقيبة أو في مرحلة خلفه الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي.
لكن بعد الثورة مع دخولنا رسميا فترة النظام البرلماني الذي قسم الحكم بين ثلاثة رؤوس وجعل البرلمان القلب النابض للسياسة التونسية واكتشف التونسيون عوالم مجهولة عما يحدث تحت قبة باردو التي كانت تاريخيا مركز الحكم زمن البايات الحسينيين. اشرأبت كل الأنظار نحو مجلس النواب الذي أصبح مسرحا للأداء السياسي في تونس من خلال كتل مختلفة حد التناقض تتراوح ما بين المعارضة والموالاة وتذكرنا بالمشهد اللبناني الذي كنا نتابعه في فترة من الفترات.
وهنا تعلن الكاتبة سعاد السنوسي أنها تريد أن تجعل قارئها يغوص في أشغال العمل البرلماني وأداء أعضائه. عبر نقل محايد والعبارة حرفيا لها لبعض ما جرى في الكواليس و ما كان خافيا عن أنظار الرأي العام.
هذه العبارات وحدها كفيلة بأن تثير فضولنا وتغذي الرغبة في التلصص على مركز الحكم في تونس على امتداد عقد من الزمن حيث كانت تبرم الصفقات السياسية وتعقد اللقاءات السرية وتدار التوافقات وتنسج العلاقات مع الخارج في مرحلة دقيقة من تاريخ تونس المعاصرة كانت الكاتبة شاهدة عليها من خلال عملها في صلب البرلمان ومتابعتها لتفاصيل ما يحدث في ردهاته وهذا ما يصنع في جزء مهم فرادة هذا الكتاب وخطورته بمعنى الأهمية.
والمصدر الوحيد الذي اعتمدته كاتبتنا هنا هو ذاكرتها الشخصية التي اكتظت بالتأكيد بالوقائع التي عايشتها خلال عملها تحت قبة البرلمان والتي دونتها كما تقول في شكل ملاحظات تلخص يوميات البرلمان منذ 2011 وقامت بتوثيق أهم الأحداث والتفاصيل والأرقام وهذا عنوان آخر دال على أهمية هذا الكتاب.
ولم يخل كتاب ا تحب قبة البرلمان بين الركح والكواليسب من الخلفية التاريخية التي ألقت الضوء على الممارسة البرلمانية العريقة في تونس.
ولم تغفل عن تقديم البرلمان التونسي معماريا وتاريخيا وسياسيا ومكانته المحورية في الدولة التونسية منذ نشأتها إلى اليوم. وقدمت كذلك الأدوار الموكولة له وهيكلته التنظيمية أيضا. وهو ما يحقق الإضافة معرفيا للقارئ.
ثم قسمت سعاد السنوسي كتابها إلى قسم أول وسمته بـ اما قبل عاصفة 2011ب وانطلقت في هذا الفصل من سؤال محوري : هل أن البرلمان مطلب شعبي ؟
وهو يحيل على اتاريخانيةب المطالبة ببرلمان تونسي وهو الشعار الذي رفعه التونسيون يوم 9 أفريل 1938 عندما اجتمعوا في مظاهرات حاشدة في يوم مشهود ضد المستعمر الفرنسي.
ثم تطرقت بالتفصيل إلى المراحل التي مر بها البرلمان التونسي منذ أول انتخابات تشريعية عرفتها دولة الاستقلال وبروز أول برلمان تونسي تصدر فيه الحزب الحر الدستوري المشهد وفاز بكل المقاعد وعددها تسعون وكانت المرأة الوحيدة الحاضرة في هذا البرلمان السيدة راضية الحداد وكان المناضل جلولي فارسي أول رئيس للمؤسسة التشريعية المنتخبة في دولة الاستقلال. وتميزت هذه المرحلة بالحكم الفردي كما هو معلوم والذي تأسس على شرعية نضالية تاريخية للزعيم الحبيب بورقيبة ولم يكن مجلس الأمة الذي تحولت تسميته إلى مجلس النواب ابتداء من 1964 سوى مكمل للمشهد السياسي السلطوي.
ولم يتغير الحال كثيرا مع برلمان بن علي الذي ألقت عليه الكاتبة الضوء أيضا منطلقة من وصول الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي إلى الحكم عبر إزاحة بورقيبة يوم 7 نوفمبر 1987 ومواصلة مجلس النواب عمله كمكمل دائما للمشهد السياسي السلطوي وداعما للحكم الفردي.
أما القسم الثاني من الكتاب فقد خصصته سعاد السنوسي للمجلس الوطني التأسيسي من 2011 إلى 2014 وفيه نقل لوقائع آنية فائرة عاينتها الكاتبة وكانت شاهدة عليها وكنا أيضا نتابع تفاصيلها من خلال ركح االمسرح السياسيب بينما كانت هي تملك بعض مفاتيح الكواليس التي جادت علينا بها بمنتهى السخاء في هذا الكتاب الذي يعد وثيقة تؤرخ للبرلمان التونسي.
وقد آثرت أن تلتزم بمفردات المسرح فقسمت فصول كتابها أو أقسامه إلى مشاهد تماما كما هو الحال في المسرحيات وما السياسة إلا مسرح كبير مع الاعتذار لعميد المسرح العربي يوسف وهبي.
طبعا يتذكر التونسيون اليوم كل الفصول والمشاهد والأبطال والكمبارس والمخرج ومشهدية قبة البرلمان التي كانت تثير سخريتنا حينا وغضبنا أحيانا ولكنها كانت تعكس الديناميكية السياسية التي عرفناها ما بعد ثورة 2011 والتي كان البرنامج احد ابرز عنوانيها الدالة وكذلك التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي عصفت بتونس وكان البرلمان انعكاسا طبيعيا لها.
في القسم الثالث تطرقت السنوسي إلى مجلس نواب الشعب من 2014 إلى 2019 ونظرت فيه في مسألة المحاصصات الحزبية التي طبعت تلك المرحلة والتوافق وفترة معركة التوريث وكان ما رافقها من تشظ وانقسام في صلب الكثير من التيارات السياسية.
أما القسم الرابع فقد تناولت فيه الكاتبة مرحلة مجلس نواب الشعب من 2019 إلى 2024 وهو البرلمان الذي ولدت أزماته منذ اللحظة الأولى مع بداية القسم ونذكر جميعا الصراعات العنيفة التي دارت فيه ولم تقتصر على العنف الرمزي واللفظي بل حدث عنف مادي تابعنا تفاصيله في شكل مسرحية خالية من الإبهار .
هذه المسرحية التي سيضع لها رئيس الجمهورية قيس سعيد نقطة النهاية وهو ما تضمنه الفصل الأخير من الكتاب الذي ألقت فيه الكاتبة الضوء على لحظة تاريخية فارقة جدا وهي لحظة إعلان 25 جويلية 2021 عندما قرر رئيس الجمهورية تفعيل الفصل 80 وجمد البرلمان الذي تم حله لاحقا. وكان ذلك إيذانا بدخول تونس مرحلة جديدة.
في ذكرى اغتيال الزعيم فرحات حشاد : إن من التاريخ لعبرة..
لأن التاريخ في ظاهره لا يزيد عن الإخبار وفي باطنه نظر وتحقيق كما قال العلامة عبد الرحمان ب…