الجدل المصاحب لمناقشة مشروع تجريم التطبيع يعيد الصورة «النمطية» لبرلمانات ما بعد الثورة لا لتكرار أخطاء الماضي…
على عكس ما كان ينتظر لم يختلف تقريبا برلمان 25 جويلية عن سابقيه وسجل فشله في إدارة الاختلاف وتحقيق النجاعة في أوّل امتحان ارتبط بمناقشة مشروع قانون تجريم التطبيع وشهدت الجلسة العامة بالبرلمان يوم 2 نوفمبر الفارط والتي تتزامن مع مرور قرن وست سنوات على ذكرى وعد بلفور ( 2 نوفمبر 1917 ـ 2 نوفمبر 2023 ) تقريبا نفس المشاهد والصور التي دفعت الشعب التونسي إلى فقدان الثقة في السياسيين ومطالبتهم بحل البرلمان وهو ما أقدم عليه رئيس الجمهورية قيس سعيد في 25 جويلية 2021 بإقالة رئيس الحكومة هشام المشيشي وتجميد عمل البرلمان ثم حلّه وإقرار العمل بالإجراءات الاستثنائية بصفة مؤقتة.
فمشروع تجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني على أهميته والظرفية التي طرح فيها بتزامنها مع حرب الإبادة الجماعية التي ينفّذها جيش الاحتلال باستهدافه المدنيين العزل والأطفال والنساء والمستشفيات والمدارس والملاجئ مثّل عاملا للاختلاف عوض أن يكون موضوعا للوحدة والتناغم والإثراء، فالتسرّع في صياغة مشروع القانون والدفع إلى تمريره أضرّ بالتوافق حول مواصلة مناقشته رغم أهميته وبعد حتى المصادقة على فصلين منه وصولا إلى رفع الجلسة العامة من قبل رئيس البرلمان وعدم استئنافها إلى حد الآن في انتظار مقترحات وتوصيات ندوة الرؤساء الثلاثاء المقبل وإثره مكتب المجلس.
وكان من الأجدى على النواب استكمال جميع السماعات في علاقة بالمشروع والتريّث والاطلاع على مختلف التشريعات ذات العلاقة والتي يمكن أن تتداخل مع فصول المشروع المعروض على أنظار البرلمان من أجل إعداد قانون قابل للتنفيذ قانونيا وإجرائيا ولا يتعارض مع المجلة الجزائية ويتماشى مع موقف تونس الثابت والمبدئي من القضية الفلسطينية ومن دعم الشعب الفلسطيني في قضيته العادلة وفي تحرير أراضيه وفي إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.
فتماهي موقف تونس الرسمي مع الموقف الشعبي أعطى سقفا أعلى بكثير من مجرد تجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني والتعامل معه بل ذهب إلى اعتبارها خيانة عظمى وما خطابات التشويه والتخوين التي تتعالى من هنا وهناك داخل قبّة سيّد نفسه أو خارجه إلا مزايدات تدخل في خانة الحسابات الانتخابية.
فرغم أن البرلمان جاء على اثر نظام انتخابي جديد يقوم على طريقة الاقتراع على الأفراد لا على القائمات والتي قطعت مع القائمات الحزبية والأحزاب وأفرزت نسيجا متنوعا ومختلفا من حيث التمثيلية وإعطاء فرصة حقيقية للأفراد لتمثيل جهاتهم دون حسابات حزبية وأجندات انتخابية وإيديولوجية الا أنه لم يبتعد كثيرا عن الصورة االنمطيةب التي خلّفتها برلمانات ما بعد الثورة فبمجرد عرض مشروع على غاية من الأهمية والحساسية من حيث تداعياته الدبلوماسية والاقتصادية الا ودخل أعضاء مجلس النواب في جدال واختلافات حول استكمال مناقشة المشروع من عدمه والدخول في خطابات التشويه والمزايدات السياسية والانتخابية رغم أنه ليس هناك معارضة داخل البرلمان بل إن أغلبيته إن لم نقل جلّها مساندة لرئيس الجمهورية ولمساره.
ويبدو في قراءة أولى لدلالات هذه الصورة االنمطيةب لـاسيّد نفسهب والتي ظهر بها نواب البرلمان مع بداية طرح مناقشة مشروع قانون تجريم التطبيع داخل البرلمان والجدل الكبير الذي صاحبه أن هناك قراءة أو تأويلا خاطئا لطريقة أو للمسائل الإجرائية والقانونية التي يمكن أن تتجسّم أو تترجم موقف تونس الرسمي والشعبي من الكيان الصهيوني ومن التعامل معه بالتجريم قانونا وكيفية تطبيق ذلك إجرائيا وعدم تعارضه مع دستور 25 جويلية 2022 والتشاريع الجاري بها العمل وفي مقدمتها المجلة الجزائية.
إنّ ما خلّفه مشروع قانون تجريم التطبيع من جدل نحن في الأصل في غنى عنه لأن تونس وموقفها الرسمي والشعبي بطبيعته مساند مبدئيا وتاريخيا للقضية الفلسطينية وليس له تعاملات واضحة ومباشرة مع الكيان الصهيوني وليس هناك في الحقيقة ما يبرر هذا الاختلاف أو السجال والجدال.. خاصة كما أسلفنا الذكر أن تونس وشعبها ونظامها الرسمي ليس له مصالح ولا تعاملات مع الكيان الصهيوني وليس ضمن بوتقة الدول المطّبعة أو في طريق التطبيع وهو ما يطرح عديد التساؤلات من قبيل لماذا هذا الإصرار على تمرير مشروع قانون غير مكتمل لتجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني؟ ولماذا أيضا هذا الجدل الحاصل حول هذا المشروع ما دام الأمر محسوما مسبقا وهو في وجدان الشعب التونسي أصلا ؟ ولماذا هذا الإصرار على تمرير مشروع هذا القانون، أليس من الأصحّ والأنجع الاستئناس بالمجلة الجزائية مثلما ذهب إلى ذلك رئيس الجمهورية قيس سعيّد في آخر كلمة توجّه بها إلى الشعب التونسي باعتباره أعلى سقفا بتنصيصه على الخيانة العظمى؟.
وبغض النظر عن تفاوت أهمية مختلف مشاريع القوانين المعروضة أو التي ستعرض على أنظار مجلس نواب الشعب للنظر فيها ومناقشتها على خلفية دوره التشريعي والرقابي الموكول له وفق الدستور فانه من الوجيه أن يبتعد النواب قدر المستطاع على بث وإثارة تلك الصور االنمطيةب التي تعوّد عليها المواطن التونسي في برلمانات ما بعد الثورة باختلاف تشكيلاتها ودفعته الى فقدان الثقة في الأحزاب السياسية والتشكيك في أدوارهم ونفّرته من المشاركة السياسية ومن ممارسة واجبه الانتخابي، فما عزوفه في الفترة الأخيرة والذي أثبتته مختلف المؤشرات والأرقام الا حجة دامغة على ذلك، فلا يمكن أن تتغلب اليوم الحماسة أو المزايدات الانتخابية أو غيرها على العقل والتعقل والرصانة في ممارسة العمل النيابي، فمن غير المقبول تكرار أخطاء الماضي في علاقة بالممارسة البرلمانية وما يحدث داخل قبّة اسيّد نفسهب.
فالقضية الفلسطينية قضيّتنا أفرادا وشعبا ونظاما وسلطة… فهي لا تستحق كل هذه االضوضاءب بقدر ما تستحق التفكير في قانون يحظى بتوافق الأغلبية وقابل للتنفيذ قانونيا وإجرائيا ولا يتعارض مع المجلة الجزائية والتشريعات ذات العلاقة والتفكير الرصين في آليات دعم جديدة لأشقائنا في غزة وفلسطين المحتلة في مواجهة آلة القتل الصهيونية ودعمهم ومساندتهم لمواصلة المقاومة ومواصلة الحشد الدبلوماسي لنصرة القضية الفلسطينية.
عن المضاربة والاحتكار مرة أخرى..!
مثّلت مختلف مجهودات أسلاك الأمن الوطني والنتائج الايجابية التي أسفرت عنها مؤخرا في التصدي …