15 أكتوبر ذكرى الجلاء: ..ومايزال «المستعمر القديم» مستبطنا لفكرة الهيمنة..!
لم تكن معركة الجلاء التي نحيي اليوم ذكراها حدثا عاديا في تاريخ تونس المعاصر وفي التأريخ للحركة الوطنية بالتحديد بل كانت لحظة مفصلية لها ما بعدها.
فقد واجه التونسيون فرنسا الاستعمارية بكل جبروتها وغطرستها وتحدوها في ثغر بنزرت التي كان آخر معاقلها بعد أن تحصلت بلادنا على استقلالها وكان يوم 15 أكتوبر 1963 يوما مشهودا غادر فيه آخر الجنود الفرنسيين أرض تونس يجرون أذيال خذلانهم وخيبتهم وتطاردهم لعنة التاريخ والجغرافيا.
ولعله من المهم التذكير ونحن نحيي ذكرى جلاء آخر جندي فرنسي عن أرضنا بالأهمية الإستراتيجية القصوى التي كانت تمثلها مدينة بنزرت بالنسبة إلى السلطات الاستعمارية الفرنسية فقد كانت تضم أهم الثكنات العسكرية الفرنسية كما كانت ترتبط بجزيرة صقلية بممر بحري جعلها تشكل جسرا بين القارة الإفريقية وأوروبا. إلى جانب الاستفادة الكبرى من بحيرة بنزرت لأغراض حربية بالأساس ودون المضي أبعد من هذا فإن الاستعمار الفرنسي آل على نفسه أن لا يتخلى عن هذه المدينة بسهولة فقرر التونسيون خوض معركة دامية واجهوا فيها الآلة العسكرية الفرنسية الغاشمة بكل ما تمثله من قمع وغطرسة بأدوات بدائية وبجيش كان بصدد التكوين لكنه كان مدججا بالعزيمة والثبات أمام كل العتاد والأسلحة الثقيلة التي تمتلكها فرنسا في تلك الفترة.
وإذا كنا في كل سنة نحيي ذكرى الجلاء بكل معاني الفخر والعزة فإنه يحق لنا أن نتساءل في هذه المناسبة وفي غيرها من المناسبات الوطنية عن الإرث الاستعماري الثقيل وعن العلاقة مع فرنسا المستعمر القديم الذي وإن غير أدواته ولبست قبضته الحديدية قفازات من الحرير الناعم إلا انه ما يزال مستبطنا علاقات الهيمنة القديمة ويعتبر مستعمراته الإفريقية القديمة بمثابة مناطق نفوذ لا يمكن التفريط فيها ومن بينها تونس قطعا.
ولعله من المهم اليوم القيام بالمراجعات التاريخية السياسية والثقافية اللازمة في علاقتنا بفرنسا ونحن نلاحظ تدخلها السافر في أكثر من مناسبة في استقلالية القرار التونسي بل وتطاولها في أكثر من مناسبة علينا وآخرها تلك التصريحات المستفزة الواردة على لسان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في معرض حديثه عن الهجرة والطريقة التي طرحها لمساعدة تونس متجاهلا كل المعطيات التاريخية ومتجاوزا كل الأعراف الدولية وفي خرق واضح للقانون الدولي وكأنه يستبطن الفكرة الاستعمارية كما صاغها أجداده وهم يرسلون الانثروبولوجيين الأوائل لتحديد ”جينات” المجتمع التونسي وفك شيفرته قبل التدخل العسكري الغاشم في ماي 1881.
والحقيقة أن فرنسا لا تدخر جهدا في تذكيرنا في أكثر من سياق بإرثها الاستعماري وآخر الشواهد على ذلك اصطفافها سياسة وإعلاما خلف العدو الصهيوني الذي يقوم بحرب إبادة معلنة على الفلسطينيين تقوده دواعي ثأرية غريزية سقطت معها كل الأعراف والقوانين والشرائع الدولية وحتى المعايير الإنسانية تماما مثلما سقطت الأفكار التحريرية للثورة الفرنسية كما روّجها أصحابها وتبناها أحرار العالم.
وفي هذا السياق لا نستطيع أن نتجاهل معطى مهما في علاقتنا بفرنسا الاستعمارية ونعني بالتحديد عدم الاعتذار حتى اليوم عن جرائمها في حق الشعب التونسي ومن بينها المجازر التي ارتكبتها في معركة الجلاء على سبيل الذكر لا الحصر ومن بينها أيضا وقائع الاغتيال المعلن للزعيم النقابي الشهيد فرحات حشاد والأرشيف التاريخي يعج بالوقائع الوحشية التي ارتكبتها باريس ضدنا وصفحات التاريخ الملطخ بالدم شاهدة على كل ذلك.
وإذا كان من حقنا أن نعود في كل مناسبة إلى مطالبتها بالاعتذار فإننا بذلك نؤكد أن جرائم الحرب التي ارتكبتها على أرضنا وفي حق أهلنا لن تسقط بالتقادم وإذا كانت بعض السياقات التاريخية قد اتسمت بالمرونة حتى لا نقول المهادنة فإن اللحظة الآن تبدو مواتية للقيام بالمراجعات اللازمة.
اتّساقا مع الرهانات الوطنية والإقليمية والدولية : المضيّ بخطى ثابتة نحو أفق جديد
على الجميع ان يحثّ الخطى في الاتجاه الذي رسمه الشعب لبناء تاريخ جديد … هذه الجملة هي…