الدولة الفلسطينية بين حقيقة الفكرة ووهم السلطة القائمة
كم كان المرء ليتمنى أن يكون هناك بين رجال المقاومة الفلسطينية، من يجرؤون على مواجهة العالم بالحقيقة التي كشف عنها بنيامين نتنياهو، ليقرّوا بحقيقة أنهم شرف الشعب الفلسطيني، وأنهم كشفوا خدعة ليس من الأخلاق أن تستمر، وأنهم إما أن يجبروا العالم على الاعتراف بهم وبوجود دولة فلسطينية، أو أن يجبروا رموز السلطة الفلسطينية المكبلة على استقالة جماعية من الوهم الذي دفعتهم اليه مفاوضات أوسلو للسلام.
نتنياهو قال خلال جلسة مغلقة للجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست، اإنه يجب العمل على اجتثاث فكرة إقامة الدولة الفلسطينية، وقطع الطريق على تطلعات الفلسطينيين لإقامة دولة مستقلة لهمب. ولكنه أكد في المقابل أن امن مصلحة إسرائيل بقاء السلطة الفلسطينية، وهي على استعداد لدعمها ماليا لكي تواصل عملها.
هذا وحده يكفي للكشف عن أن السلطة الفلسطينية الحالية تؤدي دورا وظيفيا سلبيا ليس لجهة الدفاع عن الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني فحسب، بل إنها تؤدي دورا سلبيا لجهة الدفاع عن مشروع إقامة دولة فلسطينية أيضا. أي المشروع الذي تبرر نفسها به. كما تبرر خياراتها السلمية المتخاذلة به أيضا.
نتنياهو يعرف أين تكمن مصلحة إسرائيل. وبقاء السلطة الفلسطينية على رأس سلطتها، جزء من مصلحة إسرائيل. هذه النتيجة لا تكشف شيئا جديدا عن طبيعة هذا الكائن. ولكنها تلفت الأنظار إلى الذين يقفون من حوله. فهم إما أن يكونوا جزءا من تلك المصلحة، فيكفوا عن الكلام البذيء الذي يرددونه في الدفاع عن حقوق شعبهم، ليصوّروا أنفسهم كمناضلين من أجل قضية وطنية مقدسة، وإما أن تكون لديهم ذرة ضمير حي تدفعهم إلى الإقرار بأنهم يؤدون دورا وظيفيا مختلا، وأن الاستقالة الجماعية هي دليل التبرّؤ الوحيد من عالم الفشل الذي غطست فيه السلطة الفلسطينية إلى أذنيها، وجرّتهم إليه عملية السلام المزعومة.
أعمال تدمير افكرة الدولة الفلسطينية المستقلةب جارية منذ ثلاثين عاما على الأقل. أي منذ أن تولى نتنياهو سلطته لأول مرة. لا تعرف ما هي الأوهام التي ظل يسوّقها المسؤولون الفلسطينيون لأنفسهم عندما تجاهلوا ما ظل يجري بين أيديهم من أعمال توسيع المستوطنات، وقطع الأواصر الجغرافية ليس بين الضفة الغربية والقدس وغزة فحسب، بل وبين مدن الضفة الغربية نفسها أيضا.
يكفي أن تنظر إلى خارطة المستوطنات هناك لتكتشف أنها حولت الضفة الغربية إلى منخل، ينخر فكرة الدولة المستقلة، وينخر احل الدولتينب أمام سمع االسلطة الفلسطينيةب وبصرها. وهذه السلطة لم تكتف بأن ظلت تردد شعارات الوهم والخداع نفسها، ولكنها تعمدت ألا تتدبر حلولا وخيارات أخرى. كما أنها تعمدت أن تمنع كل فرصة لإعادة النظر في استراتيجية السلام. تعمدت، أكثر من ذلك، أن تتواطأ مع نزعات التسلط التي فرضها رئيس السلطة لكي يبقى رئيسا لها، رغما عن أنف كل ما ظل يحققه من فشل.
الإسرائيليون يخشون الآن على هذه السلطة أن ترحل. ولا يريدون لها أن تنهار. ويقول نتنياهو إنه مستعد لدعمها بالمال لكي تواصل عملها.
ما هو عملها، ذاك الذي ترى إسرائيل أن استمراره من مصلحتها؟
يتطلب الأمر لحظة تأمل وهزة يقظة، لكي يعرف كلّ ذي خطإ أنه أخطأ مع نفسه؛ أخطأ مع شعبه، وأخطأ مع قضيته، ما لم يخرج ليتبرأ من مستنقع السلام، ومن كذبة إقامة الدولتين جنبا الى جنب.
في الرد على نتنياهو، كان من المضحك واللافت ومن ذي جليل المعنى، أن اختار المتحدث باسم الرئيس عباس جزءا، لينفح بالكلام المكرر، ويصمت عن الجزء الآخر. رد على اجتثاث االفكرةب، ولم يرد على اأن بقاء السلطة الفلسطينية من مصلحة إسرائيلب.
الناطق باسم الرئاسة الفلسطينية نبيل أبوردينة قال منذ مدة اإن تصريحات نتنياهو تُظهر للعالم حقيقة النوايا الإسرائيلية الرافضة للشرعية الدولية والقانون الدوليب. وسكت عن الباقي، لأنه يعرف الخطأ، ويراه.
ولا شيء جديد في حقيقة أن نتنياهو يرفض الشرعية الدولية والقانون الدولي. إسرائيل كلها ترفض الشرعية الدولية والقانون الدولي.
ولئن وجد نتنياهو نفسه يجرؤ على دعوة التخلي عن إقامة دولة فلسطينية، وتاليا عن احل الدولتينب، فلأنه بدد الأساس الجغرافي والسكاني الذي يمكنها أن تقوم عليه. بدد الترابط الجغرافي في ما بين مدنها، وذلك بمقدار ما بدد الصراع على السلطة الفلسطينية ووحدة الشعب الفلسطيني، وبدد قدرته على إقامة دولة تحظى بالشرعية أمام شعبها على الأقل.
هكذا، ليتضح كيف أن العملين متكاملان في الحقيقة، وكيف أنهما شريكان في تدمير التطلع الفلسطيني من أجل الاستقلال في دولة. وكيف أن الفشل الفلسطيني هو أداة إسرائيل الأولى الذي تبرر به وجودها.
هذا هو العمل الحقيقي للسلطة الفلسطينية المحاصرة التي رضيت بتصديق الوهم.
كيان قائم على مبدإ الاحتلال والتوسع الاستيطاني والقوة المسلحة، قام في الأساس، على انتهاك الشرعية والقانون منذ لحظة وجوده الأولى. وهو قاعدة عسكرية على أرض الغير. وحالما تتغير موازين القوى، أو تنتفي الحاجة إلى وجوده كمعسكر دبابات وطائرات، فإن الحاجة إلى بقائه كدولة سوف تتغير.
في المقابل، فإن فكرة إقامة دولة فلسطينية لا يمكن اجتثاثها على أي حال، لأنها هي عنوان الأرض الوحيد. هناك شعب يبلغ تعداده نحو سبعة ملايين فلسطيني يعيشون على أرضهم، وينافسهم عليها سبعة ملايين مستوطن تركوا مواطنهم الأصلية ليعيشوا في معسكر دبابات.
وهناك مقاومة حية تبهر العالم وتبهر العدو قبل الصديق، وكلما بلغ اليأس مبلغه تنتفض وتظهر لتثبت ان الفكرة لا تموت وان الحق يتوارث.
لا حاجة حتى إلى سجلاّت التاريخ. الفلسطيني على أرضه هو التاريخ. لونه من لون الأرض، ووجوده من وجودها، وحتى طعامه من طعامها.
الدولة، بالمعنى المؤسسي شيء، والوجود شيء آخر. وهو ما ينطبق على إسرائيل. فدولتها التي لا تعرف حتى الآن ما هي حدودها، تقول بنفسها إنها كيان مزيف ومؤقت. أما وجودها الملتبس فإنه سرعان ما يتضح في الجوازات المزدوجة للإسرائيلي الذي يخشى أن يمضي بقية حياته في دبابة.
السؤال الذي يتعين على السلطة الفلسطينية أن تجيب عليه، هو لماذا يعتبر نتنياهو بقاءها من مصلحة إسرائيل. الكلام الصعب إنما يكمن هنا، وهو يستحق جوابا جريئا.
والجواب الجريء ليس قولا تقوله، وإنما فعل تفعله.
بكل هدوء : لماذا يحتاج المسؤول في تونس اليوم إلى الخضوع لتجربة «سيف دمقليس»؟
تحظى «وظيفة» أي مسؤول في الدولة بصفة عامة بزخم خاص، فهي مبلغ حلم الكثيرين، إن لم نقل الأغ…