الشهداء‭ ‬قطعا‭  ‬لا‭ ‬يرحلون‭ ‬هم‭  ‬يمثلون‭  ‬علينا‭ ‬أنهم‭ ‬غادروا‭ ‬وربما‭ ‬يحتاجون‭ ‬فقط‭ ‬إلى‭ ‬من‭ ‬يحرس‭ ‬أحلامهم‭ ‬كما‭ ‬فعل‭ ‬محمود‭ ‬درويش‭ ‬ذات‭ ‬قصيد‭ ‬وعدهم‭ ‬بأنهم‭ ‬سيصبحون‭ ‬على‭ ‬وطن‭ ‬من‭ ‬سحاب‭ ‬وشجر‭ ‬وماء‭. 

وها‭ ‬هو‭  ‬اسم‭ ‬الشهيد‭ ‬محمد‭ ‬الزواري‭ ‬يعود‭  ‬هذه‭ ‬الأيام‭ ‬أكثر‭ ‬توهجا‭ ‬وتألقا‭ ‬ربما‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬وقت‭ ‬مضى‭ ‬سواء‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬أحرفه‭ ‬التي‭ ‬كتبت‭ ‬بمداد‭ ‬المجد‭ ‬على‭ ‬الطائرات‭ ‬المسيّرة‭ ‬التي‭ ‬توجهها‭ ‬المقاومة‭ ‬الفلسطينية‭ ‬لزعزعة‭ ‬امن‭ ‬المستوطنات‭ ‬وإرباك‭ ‬المحتل‭ ‬الصهيوني‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬كلمات‭ ‬الفخر‭ ‬التي‭ ‬تجلل‭ ‬ذكره‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬قادة‭ ‬المقاومة‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬وهم‭ ‬يمدحون‭ ‬فضله‭ ‬عليهم‭ ‬وفضل‭ ‬تونس‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬على‭ ‬القضية‭ ‬الفلسطينية‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬ذكره‭ ‬الذي‭ ‬عاد‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬المنابر‭ ‬محفوفا‭ ‬بمعاني‭ ‬التبجيل‭ ‬والتقدير‭ ‬لهذا‭ ‬الرجل‭ ‬الذي‭ ‬عمل‭ ‬في‭ ‬صمت‭ ‬من‭ ‬اجل‭ ‬المقاومة‭ ‬وارتقى‭ ‬شهيدا‭ ‬في‭ ‬واقعة‭ ‬اغتيال‭ ‬لم‭ ‬يتم‭ ‬إماطة‭ ‬اللثام‭ ‬عليها‭ ‬حتى‭ ‬اليوم‭. ‬وهذا‭ ‬موضوع‭ ‬حديثنا‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الورقة‭.‬

فالأكيد‭ ‬أن‭ ‬تونس‭ ‬التي‭ ‬نطقت‭ ‬بكلام‭ ‬واحد‭ ‬وكانت‭ ‬على‭ ‬قلب‭ ‬رجل‭ ‬واحد‭ ‬قد‭ ‬انحازت‭ ‬قيادة‭ ‬وشعبا‭ ‬لغزة‭ ‬وقدمت‭ ‬موقفا‭ ‬مشرّفا‭ ‬ثمّنه‭ ‬حتى‭ ‬ألدّ‭ ‬خصوم‭ ‬رئيس‭ ‬الجمهورية‭ ‬قيس‭ ‬سعيّد‭ ‬وهو‭ ‬موقف‭ ‬متقدم‭ ‬على‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬البلدان‭ ‬العربية‭. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬جعلنا‭ ‬نمضي‭ ‬في‭ ‬طرح‭ ‬ملف‭ ‬نراه‭ ‬في‭ ‬غاية‭ ‬الخطورة‭ ‬وتبدو‭ ‬السياقات‭ ‬اليوم‭ ‬مناسبة‭ ‬لفتحه‭ ‬مع‭ ‬توفر‭ ‬كل‭ ‬الضمانات‭ ‬للوصول‭ ‬إلى‭ ‬الحقيقة‭ ‬ونعني‭ ‬قضية‭ ‬اغتيال‭ ‬الشهيد‭ ‬محمد‭ ‬الزواري‭ ‬الذي‭ ‬كما‭ ‬أسلفنا‭ ‬أعلاه‭ ‬قد‭ ‬عاد‭ ‬ذكره‭ ‬متوهجا‭ ‬مع‭ ‬طوفان‭ ‬الأقصى‭.‬

لكن‭ ‬ماذا‭ ‬لو‭ ‬تذكّرنا‭ ‬معا‭ ‬بعض‭ ‬التفاصيل‭ ‬المهمة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الصدد‭. ‬وأولها‭ ‬ان‭ ‬تونس‭ ‬استفاقت‭ ‬يوم‭ ‬15‭ ‬ديسمبر‭ ‬2016‭ ‬على‭ ‬واقعة‭ ‬اغتيال‭ ‬المهندس‭ ‬التونسي‭ ‬محمد‭ ‬الزواري‭ ‬من‭ ‬أمام‭ ‬منزله‭  ‬بمسقط‭ ‬رأسه‭ ‬مدينة‭ ‬صفاقس‭. ‬وقد‭ ‬تمت‭ ‬عملية‭ ‬الاغتيال‭ ‬بطلقات‭ ‬نارية‭ ‬من‭ ‬مسدس‭ ‬كاتم‭ ‬الصوت‭. ‬

  ‬وتبين‭ ‬لاحقا‭  ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬نعته‭ ‬حركة‭  ‬المقاومة‭ ‬الفلسطينية‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬عضوا‭ ‬في‭ ‬كتائب‭ ‬الشهيد‭ ‬عز‭ ‬الدين‭ ‬القسام‭ ‬الجناح‭ ‬العسكري‭  ‬لحماس‭. ‬وهي‭ ‬التي‭ ‬كشفت‭ ‬المعطيات‭ ‬المتعلقة‭ ‬بهويته‭ ‬النضالية‭ ‬بعد‭ ‬استشهاده‭ ‬في‭ ‬تونس‭. ‬ومن‭ ‬بين‭ ‬ما‭ ‬أوردته‭ ‬بهذا‭ ‬الخصوص‭ ‬أن‭ ‬الشهيد‭ ‬الزواري‭ ‬تولى‭ ‬الإشراف‭ ‬على‭ ‬مشروع‭ ‬تطوير‭ ‬الطائرات‭ ‬المسيّرة‭ ‬في‭ ‬وحدة‭ ‬التصنيع‭ ‬بكتائب‭ ‬القسام‭ ‬وأطلق‭ ‬عليه‭ ‬اسم‭ ‬أبابيل‭ ‬1‭ ‬وتم‭ ‬استخدامها‭ ‬في‭ ‬معركة‭ ‬العصف‭ ‬المأكول‭ ‬في‭ ‬2014‭. ‬وكذلك‭ ‬قام‭  ‬بتصنيع‭ ‬الغواصة‭ ‬المسيّرة‭ ‬عن‭ ‬بعد‭ ‬أيضا‭ ‬والتي‭ ‬اشتغل‭ ‬عليها‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬مشروع‭ ‬الدكتوراه‭ ‬التي‭ ‬أعدها‭ ‬في‭ ‬الهندسة‭. ‬

ولعل‭ ‬سيرته‭ ‬النضالية‭ ‬ودوره‭ ‬الكبير‭ ‬في‭ ‬المقاومة‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬جعل‭ ‬جهاز‭ ‬الموساد‭ ‬الاسرائيلي‭ ‬يخطط‭ ‬بدقة‭  ‬لاغتياله‭ ‬بتلك‭ ‬الطريقة‭.‬

والحقيقة‭ ‬ان‭ ‬عائلة‭ ‬الشهيد‭ ‬الزواري‭ ‬ظلت‭ ‬تنتظر‭ ‬طوال‭ ‬هذه‭ ‬المدة‭ ‬ما‭ ‬ستسفر‭ ‬عنه‭ ‬التحقيقات‭ ‬وتقديم‭ ‬المتورطين‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬العملية‭ ‬إلى‭ ‬العدالة‭ ‬ومحاكمتهم‭ ‬على‭ ‬جرمهم‭ ‬الفظيع‭.‬

والمفارقة‭ ‬العجيبة‭ ‬هنا‭ ‬أن‭ ‬السلطة‭  ‬التونسية‭ ‬تولت‭ ‬في‭ ‬الإبان‭ ‬كشف‭ ‬القتلة‭ ‬وتحديد‭ ‬هوياتهم‭ ‬وهما‭ ‬شخصان‭ ‬يحملان‭ ‬الجنسية‭ ‬البوسنية‭  ‬وكان‭ ‬رفقتهما‭  ‬شخص‭ ‬نمساوي‭ ‬الجنسية‭ ‬وتم‭ ‬بالفعل‭ ‬إصدار‭ ‬بطاقات‭  ‬جلب‭ ‬في‭ ‬حق‭ ‬المتهمين‭ . ‬وصدرت‭ ‬كذلك‭ ‬انابات‭ ‬عدلية‭ ‬بهذا‭ ‬الخصوص‭  ‬في‭ ‬عدة‭ ‬دول‭ ‬من‭ ‬بينها‭ ‬تركيا‭ ‬وبلجيكا‭ ‬ولبنان‭ ‬والبوسنة‭. ‬ولكن‭ ‬لا‭ ‬نتائج‭ ‬تذكر‭ ‬حتى‭ ‬اليوم‭.‬

ويجدر‭ ‬التذكير‭ ‬بأن‭ ‬المتهمين‭ ‬دخلوا‭ ‬التراب‭ ‬التونسي‭ ‬بجوازات‭ ‬سفر‭ ‬رسمية‭ ‬وذلك‭ ‬عبر‭ ‬ميناء‭ ‬حلق‭ ‬الوادي‭ ‬يوم‭ ‬8‭ ‬ديسمبر‭ ‬2016‭. ‬

ورغم‭ ‬توفر‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬المعطيات‭ ‬التفصيلية‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬العدالة‭ ‬لم‭ ‬تأخذ‭ ‬مجراها‭ ‬حتى‭ ‬اليوم‭. ‬

وهذا‭ ‬ما‭ ‬حدا‭ ‬بشقيق‭ ‬الشهيد‭ ‬إلى‭ ‬الدعوة‭ ‬صراحة‭ ‬إلى‭ ‬فتح‭ ‬تحقيق‭ ‬جدي‭ ‬في‭ ‬ملابسات‭ ‬الاغتيال‭. ‬وقال‭ ‬السيد‭ ‬رضوان‭ ‬الزواري‭ ‬في‭ ‬تصريح‭ ‬إعلامي‭ ‬لإحدى‭ ‬القنوات‭ ‬التونسية‭ ‬مساء‭ ‬9‭ ‬أكتوبر‭ ‬أنه‭ ‬يطالب‭ ‬السلطات‭ ‬بأن‭ ‬تفتح‭ ‬التحقيق‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬كما‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يخف‭ ‬توجسه‭  ‬من‭ ‬إمكانية‭ ‬تواطئ‭  ‬بعض‭ ‬الأطراف‭ ‬التونسية‭ ‬مع‭ ‬القتلة‭ ‬وتراخي‭ ‬بعض‭ ‬الفاعلين‭ ‬السياسيين‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬عن‭ ‬متابعة‭ ‬المتورطين‭ ‬في‭ ‬جريمة‭ ‬الاغتيال‭ ‬وكل‭ ‬من‭ ‬ساعدهم‭ ‬أو‭ ‬قام‭ ‬بإسنادهم‭ ‬من‭ ‬بعيد‭ ‬أو‭ ‬قريب‭. ‬

وحتى‭ ‬لا‭ ‬ننسى‭ ‬وما‭ ‬بالعهد‭ ‬من‭ ‬قدم‭ ‬أن‭ ‬تونس‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬مرتعا‭ ‬للمخابرات‭ ‬الأجنبية‭ ‬وقد‭ ‬استبيحت‭ ‬سيادتها‭ ‬وحرمتها‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬مرحلة‭ ‬ارتباك‭ ‬عام‭ ‬تفرغ‭ ‬فيها‭ ‬الساسة‭ ‬لاقتسام‭ ‬كعكة‭ ‬السلطة‭ ‬والصراع‭ ‬عليها‭ ‬سرّا‭ ‬وعلانية‭ ‬وتركوا‭ ‬البلد‭ ‬مستباحا‭ ‬بكل‭ ‬المعاني‭. ‬

ولعل‭ ‬جريمة‭ ‬الاغتيال‭ ‬التي‭ ‬تم‭ ‬تنفيذها‭ ‬هي‭ ‬خير‭ ‬دليل‭ ‬على‭ ‬الفشل‭ ‬الذريع‭ ‬لرموز‭ ‬تلك‭ ‬المرحلة‭.‬

أما‭ ‬الآن‭ ‬ومع‭ ‬تغير‭ ‬المعطيات‭ ‬ومع‭ ‬توفر‭ ‬الإرادة‭ ‬السياسية‭ ‬الصادقة‭ ‬في‭ ‬دعم‭ ‬القضية‭ ‬الفلسطينية‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬وفي‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬الحقيقة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬الجرائم‭ ‬التي‭ ‬تم‭ ‬ارتكابها‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬الأخيرة‭ ‬فإن‭ ‬الوقت‭ ‬مناسب‭ ‬لإعادة‭ ‬ملف‭ ‬القضية‭ ‬وتحميل‭ ‬المسؤولية‭ ‬لكل‭ ‬من‭ ‬اقترف‭ ‬هذا‭ ‬الجرم‭ ‬الشنيع‭ ‬سواء‭ ‬من‭ ‬القتلة‭ ‬الذين‭ ‬هم‭ ‬أدوات‭ ‬تنفيذ‭ ‬في‭ ‬أيدي‭ ‬جهاز‭ ‬الموساد‭ ‬الصهيوني‭ ‬أو‭ ‬أولئك‭ ‬المتواطئين‭ ‬مهما‭ ‬كانت‭ ‬جنسيتهم‭ ‬أو‭ ‬مكانتهم‭ ‬أو‭ ‬نفوذهم‭.‬

فلننتظر‭ ‬ونرى‭.‬

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

إلى مراكز النفوذ في الغرب وتحديدا فرنسا بعد أن سقطت أقنعتها: تونس ليست ملفا حقوقيا..!

من المعلوم ان علاقة تونس بالآخر الغربي متعددة الأبعاد والتقاطعات بين النخب الغربية والفرنس…