عن انحدار المنظومة التعليمية ومساعي اصلاحها: أيّ جـيل نـُـريـد..؟
الثابت اليوم أن تهرّؤ المنظومة التعليمية وانحدار أدائها إلى أدنى المستويات كانت له تبعات وخيمة على التحصيل العلمي للناشئة والثابت أيضا أن نتائج المناظرات الوطنية كانت كفيلة بفضح المستوى التعليمي الضعيف للتلاميذ على سبيل الذكر لا الحصر ما يزيد عن 31 ألف تلميذ لم يحصلوا على معدل في مناظرة السيزيام ، ناهيك عن المستوى المعرفي المحدود والذي لا يتماشى في اغلب الأحيان مع المعدلات التي تحصل عليها التلاميذ والتي تشي بخلل عميق في القطاع بلغ أخطر مراحله وأقصاها ، والأمر لا يحتاج إلى دراسات معمقة ولا إلى تقارير استقصائية دقيقة ومفصلة لتأكيده والتنبيه إلى خطورته ،إذ يكفي المرء تأمّل النتائج الجيدة لعدد كبير من التلاميذ حتى يلاحظ أنها لا تتماشى والتحصيل المعرفي للتلميذ …
وليس من باب المبالغة اليوم في شيء القول أنّنا نتحدث اليوم عن تضخيم للاعداد المُسندة للتلاميذ من قبل بعض المربين وذلك يعود لعدة اعتبارات منها الدروس الخصوصية التي باتت تمثل سوقا سوداء لبيع الأعداد بالنسبة لشق معيّن من المربين وهنا تكمن المعضلة والمغالطة الكبرى التي تُكشف في أول استحقاق وطني وهي مناظرة السيزيام -اللطخة الأولى – أو عن طريق التقييم الحقيقي الذي يقوم به المربون الشرفاء والذين لا يخضع لديهم التقييم سوى لمعيار الضمير وما تُمليه عليهم رسالتهم النبيلة… هذا دون الخوض في العديد من التفاصيل الأخرى التي جعلت أداء المؤسسة التربوية يتراجع …
يقول في هذا السياق رئيس الجمعية التونسية لجودة التعليم سليم قاسم انه علينا أن نصارح أنفسنا بأنّ منظومتنا التّربويّة قد صارت منذ عقدين على الأقل منظومة الشّكليّات: فكل الجهود فيها منصبّة على أمرين لا ثالث لهما: ضمان توفير قاعة تدريس ومدرّس لكلّ تلميذ، وإجراء الامتحانات والخروج في نهاية كلّ سنة دراسيّة بنسب للنّجاح وبقائمة للنّاجحين والرّاسبين.. أمّا الفاعليّة وجودة النواتج وتحقيق الأثر المنشود لفائدة الفرد والمجموعة، فعناصر لم يعد لها من وجود على قائمة أولويّات المشرفين على هذه المنظومة ولا حتّى ضمن اهتماماتهم الثّانويّة، ولا أدلّ على ذلك من الغياب المطلق للمعايير والإهمال التّام لتقييم الأداء.. وحتّى إن قمنا من حين إلى آخر ببعض التّقييمات غير المنتظمة، فإنّ ذلك لا يتعدّى حدود رفع اللّوم وذرّ الرّماد على العيون، حيث تُتْرك نتائج تلك التّقييمات جانبا ولا يتمّ اعتمادها لأخذ القرارات اللاّزمة والقيام بالإجراءات التصّحيحيّة الواجبة.
مضيفا أن ما يحدث في التّعليم الابتدائيّ دليل واضح على اختلال أداء منظومتنا وعدم قيامها على رؤية واضحة وأهداف إستراتيجية يتمّ العمل على بلوغها وفقا لتمشّ دقيق: فلسنوات طويلة فُتِحت الأبواب على مصراعيها لانتدابات عشوائيّة للمدرّسين ضربت عرض الحائط بأبسط قواعد الحوكمة والجودة والمنطق، كما أُثْقِلت البرامج بأكثر من 15 مادّة يدرسها التّلميذ خلال هذه المرحلة، وتاه المربّون بين مقاربات تعليميّة مسقطة ومشوّهة أثقلت كاهلهم واستنزفت طاقاتهم دون جدوى.. وبما أنّ النّتيجة الحتميّة لكلّ هذا العبث لا يمكن أن تكون إلاّ تدهورا لمكتسبات المتعلّمين، وبدل تدارك الأمر قبل فوات الأوان، تمّ منذ سنوات إلغاء الامتحان الوطني الذي كان يتوّج المرحلة الابتدائيّة حتى لا ينكشف حجم التّخريب الذي طال المنظومة، لنكون أمام جريمة صامتة لا تنكشف آثارها إلاّ في المرحلة الإعداديّة، حيث ينقطع منذ سنتها الأولى عشرات الآلاف من التّلاميذ عن التّعليم بسبب الأمّيّة التي يعانونها.
ويؤكد محدثنا أن الواجب الوطنيّ يقتضي من الجميع اليوم وقفة حازمة للقطع مع عقليّة تصريف الأعمال التي خرّبت التّعليم الابتدائيّ وقادته إلى ما بلغه من تردّ وضعف فادح في المردود، والقيام في المقابل بثورة حقيقيّة على مستوى إدارة المنظومة التّربويّة وحوكمتها فهناك يكمن الخلل الحقيقيّ، ولن يتأتّى ذلك إلاّ عبر فرض معايير الجودة وثقافة التّقييم والتّحسين المستمرّ فرضا، أمام عجز البعض وتراخي البعض الآخر وتحول فئة ثالثة إلى قوى صدّ حقيقيّة تحارب كلّ تطوير حفاظا على مصالح شخصيّة وفئويّة ضيّقة.
إنّ عشرات النّظم التّربويّة عبر العالم تعمل ليلا نهارا على مراكمة النّجاحات لبناء أجيال جديدة ناجحة وأوطان منيعة مزدهرة، وتونس التي تزخر بطاقات جبّارة أثبتت عبر التاريخ جدارتها وقدرتها على صنع الأمجاد قادرة على الخروج بتعليمها ممّا أصابه من وهن، متى صحّت العزائم وطبّقت المعايير التي تقطع مع الفوضى والتّسيّب والانفلات، لتبني منظومة تربويّة متطوّرة عالية الأداء.
في السياق ذاته يقول رضا الزهروني رئيس جمعية الأولياء والتلاميذ أن العناوين الأساسية لفشل المنظومة التربوية تتمثّل في تنامي ظاهرة الدروس الخصوصية التي بلغت قيمتها مليار وخمسة مائة مليون دينار سنويا أي أنها تمثل 20 بالمائة من ميزانية وزارة التربية زائد تدهور نتائج الامتحانات الوطنية حيث تكون االلّطخةب الكبرى والأولى في أول محطة للتلميذ في مناظرة السيزيام والتي تعكس المستوى الحقيقي للتلميذ وتشي بأن الأعداد والمعدلات المسندة للعديد منهم لا تتماشى ومستواهم الحقيقي وهنا تكمن المغالطة والمعضلة الكبرى.
ويضيف محدثنا انه بالرجوع إلى التجارب المقارنة فان الكسب الحقيقي للمعرفة يكون في المراحل الأولى وتقوية القدرات والقراءة والكتابة مع التركيز على مبدإ تكافؤ الفرص والإنصاف لدعم جميع التّلاميذ منهم الذّين لديهم صعوبات التّعلم واعتماد مبدإ التقييم الحقيقي بعيدا عن تفخيم الأعداد والمعدّلات والتي تكون عواقبها وخيمة بنجاحات متتالية بمستوى تعليمي ضحل ومكتسبات معرفية محدودة مضيفا أن نسبة النجاح في امتحاني ختم التعليم الابتدائي والأساسي لا تتجاوز 9 بالمائة أي أن اقل من 18 ألف تلميذ من جملة 200 ألف تحصلوا على معدل 10 فما فوق في كل امتحان لسنة 2023 ناهيك أن نسبة النجاح في الباكالوريا لا تتجاوز 20 بالمائة اعتبارا لنفس الفئة العمرية لان النسب المصرح 50 المائة فما فوق تشمل فئات عمرية مختلفة في حين أنها تتجاوز 90 بالمائة في أنظمة تربوية ذات أداء متوسط ذلك ما عبّر عنه الزهروني في عديد المناسبات منبها لخطورته مبرزا في الآن ذاته أنه لابد من الأخذ بعين الاعتبار أن النتائج الضّعيفة تحقّقت في ظل ظروف عرفت استثمارا كبيرا للأولياء في الدروس الخصوصية فماذا لو لم تعمد العائلات إلى الدروس الخصوصية لكانت النتائج كارثية … كما أن الحقيقة تعكس المؤشرات الخطيرة للانقطاع المدرسي بما يفوق 120الف تلميذ سنويا و 10 الآلاف من حالات العنف المسجلة ويشير محدثنا أن رئيس الجمهورية اقرّ بان خارطة النجاح في المناظرة الوطنية هي خريطة الفقر في تونس في علاقة بالإمكانيات المادية للعائلة والجهة وتنامي ظاهرة الانقطاع المبكر عن الدراسة.
نحو إعداد خطّة وطنيّة حول التماسك الأسري
التفكك الأسري يعد معضلة حقيقية وظاهرة اجتماعية تشي بها العديد من التمظهرات والأكيد ان التف…