واقع البطالة في تونس: من أجل استرجاع الثقة بين الدولة وطالبي الشغل
تعدّ البطالة من أكبر التحديات الاجتماعية والاقتصادية التي تواجه تونس اليوم، حيث أضحت أزمة مستفحلة تشغل بال المسؤولين وطالبي الشغل على حد سواء. المعطيات الصادرة عن المعهد الوطني للإحصاء ووزارة التشغيل تكشف أرقامًا مقلقة: أكثر من 600 ألف باحث عن العمل، من بينهم %40 من حاملي الشهادات العليا، في مقابل 60 ألفا فقط مسجلين في مكاتب المساعدة على التوظيف. هذه الفجوة الكبيرة تعكس أزمة عميقة تتجاوز الأرقام لتصل إلى فقدان الثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة، التي لطالما كانت المصدر الأول للتوظيف، لكنها اليوم تعاني من ضعف القدرات في مواجهة هذه المشكلة.
إن قراءة هذه المعطيات تبرز تغيرًا جوهريًا في العلاقة بين الدولة وسوق العمل. فبينما كان يُنظر إلى الدولة تاريخيًا على أنها الضامن الأساسي لتوفير الوظائف من خلال القطاع العام، أصبحت اليوم غير قادرة على تلبية التطلعات، ليس فقط بسبب تراجع الإمكانيات المالية، ولكن أيضًا نتيجة السياسات التي اتبعتها في السنوات الأخيرة. وقف الانتدابات في الوظيفة العمومية وغياب سياسات تشغيل واضحة وفعالة عمّقا شعور الإحباط لدى الشباب، الذين باتوا يعتبرون الدولة غير قادرة على الوفاء بوعودها في توفير الشغل.
هذا الواقع غير متناغم مع التصريحات الرسمية التي تؤكد على أولوية البعد الاجتماعي وضرورة مواجهة البطالة. فالرئيس قيس سعيّد والحكومة الحالية يعلنان في مناسبات مختلفة عن التزامهما بحل هذه الأزمة، لكن السياسات الفعلية لم تقدم حلولا عملية. غلق أبواب الوظيفة العمومية وقيود الهجرة التي فرضتها الدولة لمواجهة نزيف الكفاءات خلقا شعورًا لدى الشباب بأن الدولة تقف عائقًا أمام طموحاتهم بدلاً من أن تكون داعمًا لهم.
ورغم هذه الصعوبات، لا يمكن إنكار أن تحديات البطالة في تونس لا ترتبط فقط بالدولة، بل تمتد لتشمل مشاكل هيكلية في الاقتصاد. الاقتصاد التونسي يعتمد بشكل كبير على القطاعات التقليدية مثل الزراعة والصناعة التحويلية والسياحة، التي لم تشهد تطورًا يواكب التحولات العالمية. هذا القصور في تنويع الاقتصاد وخلق قطاعات جديدة ذات قيمة مضافة عالية، مثل التكنولوجيا الرقمية والصناعات الابتكارية، يحرم الشباب من فرص العمل المناسبة لتطلعاتهم وكفاءاتهم.
إضافة إلى ذلك، تبرز مشكلة التكوين والتأهيل كعائق رئيسي أمام توفير فرص العمل. فرغم ما يقدمه التعليم في تونس من شهادات عليا، يبقى في الغالب بعيدًا عن متطلبات السوق. هذا التباين بين العرض والطلب يفاقم من أزمة البطالة، حيث يجد العديد من الخريجين أنفسهم يحملون شهادات لا تتناسب مع المهارات التي يبحث عنها القطاع الخاص.
لكن، رغم هذه الصورة القاتمة، توجد فرص للخروج من الأزمة إذا ما تم تبني مقاربات جديدة وشجاعة. وعلى الدولة أن تتحمل مسؤوليتها من خلال تقديم رؤية واضحة لتطوير الاقتصاد ودعم القطاعات الإنتاجية. كما ان الاستثمار في التعليم والتكوين المهني وفقًا لاحتياجات السوق يعد خطوة أساسية لردم الفجوة بين الكفاءات المطلوبة والمهارات المتوفرة.
علاوة على ذلك، يجب على الدولة تشجيع روح المبادرة لدى الشباب من خلال برامج تمويل المشاريع الصغيرة والمتوسطة، وتقديم الحوافز اللازمة للاستثمار في القطاعات الواعدة. كذلك الشراكة بين القطاعين العام والخاص يمكن أن تكون رافعة هامة في خلق فرص عمل جديدة. ومن المهم أيضًا تخفيف القيود على الهجرة بشكل مدروس، بحيث تُتاح للكفاءات فرص العمل بالخارج مع وضع آليات للاستفادة منها عند العودة إلى الوطن.
أخيرًا، تتطلب استعادة الثقة بين الدولة وطالبي الشغل تغييرًا عميقًا في طريقة تعامل الحكومة مع قضية البطالة. الشفافية في الخطط والسياسات، وفتح قنوات للحوار مع الشباب، وتنفيذ وعود حقيقية وملموسة ستكون خطوات أساسية لإعادة بناء الثقة المفقودة.
خلاصة القول إن أزمة البطالة في تونس ليست مجرد مشكلة اقتصادية، بل هي قضية اجتماعية وسياسية تمس علاقة المواطن بالدولة. وتجاوز هذه الأزمة يتطلب إرادة قوية ورؤية شاملة تتجاوز الحلول الجزئية وقصيرة المدى. ورغم كل التحديات، يبقى الأمل ممكنًا إذا ما تكاتفت الجهود وتغيرت السياسات نحو مستقبل يعيد للشباب التونسي ثقته في دولته وقدرته على تحقيق طموحاته.
التعويل على الذات: خيار قيس سعيّد في مواجهة تحدّيات تونس
الرئيس قيس سعيّد متمسك بأفكاره لا يتزحزح عنها وماض في تنفيذها رغم العراقيل والصعوبات، ولا …