2025-01-03

كانت الظاهرة من أبرز العناوين «المثيرة» في 2024 : وتستمر الهجرة غير النظامية بأكثر مأساوية..!

استقبل سكان جزيرة قرقنة من ولاية صفاقس العام الجديد بحادثة أليمة أودت بحياة عشرات الضحايا من أشقائنا الأفارقة من دول جنوب الصحراء ممن غامروا باجتياز حدودنا البحرية نحو جنّة وهميّة في شمال المتوسط.

صورة الواقعة وفق ما رشح من أخبار أولية وما تم نقله في وسائل الإعلام عن مصادر رسمية هو تمكّن وحدات الحماية المدنية من انقاذ 83 شخصا وانتشال 27 جثّة إثر حادث غرق مركبي هجرة غير نظامية على بعد ثلاثة أميال من سواحل قرية العطايا بجزيرة قرقنة.

وقد تمّ نقل عدد من الناجين إلى المستشفى الجهوي بقرقنة لتلقي الإسعافات الأولية فيما تم تسليم الجثث للحرس البحري ليتم نقلها إلى قسم الطب الشرعي بالمستشفى الجامعي الحبيب بورقيبة بصفاقس لتحديد الهويات وترتيب عمليات التسليم الى الأهل إن وجدوا أو الدفن كما جرت العادة، إلى جانب تواصل عمليه البحث عن المفقودين وفتح تحقيق قضائي في ملابسات الحادثة بهدف تحديد المسؤوليات ومعاقبة الأطراف الضالعة.

وللتذكير فقط، فقد سبقت فاجعة عاصمة الجنوب صفاقس، فاجعة أخرى بسواحل قلعة الاندلس من ولاية أريانة شمال البلاد، حيث غرق مركب هجرة غير نظامية في الليلة الفاصلة بين يومي 29 و 30 ديسمبر المنقضي  ومن وجوه المأساة في هذه الواقعة انتشال جثة طفل يبلغ من العمر 05 سنوات..!

ان تواتر عمليات الهجرة غير النظامية أو «الحرقة» يطرح جملة من الإشكاليات التي يجب الوقوف عندها لفهم الظاهرة وتحديد المسؤوليات خصوصا وأن بلادنا أبدت في التعاطي مع هذا الملف الدولي كثيرا من المرونة والمسؤولية والجدّية وقدّمت ما يكفي من التنازلات المؤلمة بيانا لحسن النوايا وبحثا عن المصلحة المشتركة مع جيراننا في حوض المتوسط على قاعدة احترام السيادة الوطنية وتقاسم الأعباء.

لقد جدّت واقعة قرقنة وقبلها قلعة الاندلس في سياق طبيعي وهو نهاية السنة الادارية وما قد يتوهّمه منظمو حملات «الحرقة» من استرخاء وانشغال لبواسل مؤسستينا الأمنية والعسكرية وتركيز فرق الحماية المدنية مثلا على ما قد يجدّ من حوادث في اليابسة بمناسبة الاحتفالات وانفلات سلوكيات بعض المواطنين على اليابسة لكن المغامرة كانت مأساوية ولم يجن منها الضحايا الحالمون بالوصول الى أوروبا سوى الموت أو في أفضل الحالات النجاة والسجن والترحيل..

على أن هذا «السياق الطبيعي» لا يحجب عنّا الإكراهات السياسية والإنسانية والاجرائية السياديّة التي لا مناص منها في مطلع هذا العام الجديد الذي يرث للأسف واحدا من أسوإ عناوين سنة 2024 وهو الهجرة غير النظامية.

ليس قدرنا اليوم في تونس أن نكون بين فكّي كمّاشة، بين أوروبا التي تريد منّا أن نؤدي دور الشرطي في المتوسط نحمي سواحل ايطاليا ونمنع المهاجرين الأفارقة من الوصول اليها، ودول جنوب الصحراء التي لا وجود لحدود مشتركة معها ومع ذلك يصل مواطنوها الى أرضنا عبر حدود الأشقاء للبقاء برهة من الزمن لترتيب «الحرقة».

ليس قدرنا أن نصبح نقطة عبور، وأن نستنزف جهدنا لتحمّل أعباء جريمة ضد الإنسانية لسنا سببا فيها، نقول جريمة ضد الإنسانية لأن إقدام مواطن بسيط من دولة افريقية على قطع مسافات طويلة واجتياز حواجز غير آمنة من بلد الى اخر ليس بالأمر الهيّن لو لم يكن ثمّة تواطؤ دولي وعصابات منظمة وقوى نافذة تستغل عمليات غسل الأدمغة وتستثمر في أضغاث أحلام الشباب في بلوغ الجنة الأوروبية.

لقد جادت بلادنا بما لديها من إمكانات لإنقاذ الضحايا القادمين من دول جنوب الصحراء والتعامل مع أوضاعهم الخاصة والأهم من كل ذلك تقديم حلّ جذري لمعضلة الهجرة غير النظامية في المنطقة ينبني على مقاربة شاملة تأخذ بين الاعتبار الأبعاد الامنية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية، فلا يمكن حسم ما سمّي في وقت من الأوقات بالحرب على «الحرقة» بالقوة والردع فقط لأن هذه الظاهرة تنتعش في بيئة بائسة يكثر فيها الفقر والخصاصة وانعدام مقومات العيش الكريم وغياب الأمل في المستقبل.

وما يضاعف من أزمة هذه البيئة البائسة، تمادي تغاضي الغرب بشكل عام وأوروبا بشكل خاص بوصفها كانت المستعمرة الرئيسية لدول القارة السمراء، عن الاعتذار وجبر الضرر والكف عن ابتزاز واستغلال شعوب افريقيا.

ان البديل الحقيقي اليوم أمام أوروبا هو التكفير عن ذنوب عقود من الضيم على الأقل من خلال الاستثمار في بلداننا الافريقية والمساهمة في بعث أمل في المستقبل يشجع ابناء وشعوب افريقيا، بمن فيهم التونسيون، على البقاء في بلدانهم من أجل بنائها وتشييدها.

وفي ما يخصنا على الصعيد الوطني، نحتاج دائما الى يقظة مؤسستينا الأمنية والعسكرية اللتين لم تتأخرا يوما في القيام بالواجب، ونحتاج الى صوت دبلوماسي قوي يدافع عن الطرح التونسي ويروّج لمقاربتنا في مقاومة الهجرة غير النظامية في المحافل الاقليمية والدولية دون خوف او تردد أو مراهنة على الأصدقاء والأشقاء الذين يغلّبون على ما يبدو مصالحهم الخاصة على المصلحة المشتركة.

وفي غضون ذلك علينا عدم الوقوع في فخ بث عدم التسامح والانجرار وراء الحملات المعادية لأشقائنا من دول جنوب الصحراء فتونس «افريقية» التي أعطت اسمها للقارة السمراء لا يمكن ان تتنكر لأبنائها ولا يمكن ان تنكر حقّهم في التنقل والعمل والدراسة والاقامة بيننا وهي لا تحتاج في هذا الصدد لدروس من أحد.

ومثلما كان الضحايا من دول جنوب الصحراء هذه المرّة، فهم كانوا في مرات عديدة سابقة من التونسيين والتونسيات، ولا ننسى هنا تلك الصور ومقاطع الفيديو التي وثّقت عمليات «حرقة» عائلية للأسف وعمليات حرقة لنجوم في الرياضة وحتى الثقافة والفن وهذا ما يضاعف مسؤولية الجميع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

عام مضى وآخر يأتي : تونس الرسمية والشعبية مع فلسطين

لم تكن سنة 2024 عادية في المشهد الدولي، ولسنا نبالغ حين نقول أنها كانت سنة كبيسة على الإنس…