لقد كانت سنة 2024 في تونس سنة اطلاق النوايا الكبرى… سنة التأسيس والتأصيل للدولة ومؤسساتها ومن البديهي ان تكون سنة 2025 سنة الانجازات الحقيقية على أرض الواقع التونسي الذي نتوقع تغيّره على امتداد السنة الجديدة… ونبقى رغم ذلك متشائلين الى حين…
وطنيا وعلى مستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي وقياسا بدول الجوار وخاصة الدول التي مرّ عليها «ربيع الانتكاسات» فإن التجربة التونسية يمكن اعتبارها ريادية وقد صنعت «مجدها» بفضل عزائم الآباء والأبناء وحققت نجاتها ـ أيضا ـ بفضل الطبيعة المتجانسة للتونسيين وبفضل هذا «الانتماء» الذي يجمعهم تحت راية وطنية واحدة وبهوية انتماء لا تجزئة فيها وبلا فرز عرقي أو ديني أو هووي… هي تونس الموحدة التي يخشى عليها أبناؤها من اعدائها وقد استعصت عليهم على امتداد سنوات صعبة وقاسية عرفتها تونس على امتداد عشر سنوات ونيف ذاق خلالها التونسيون الأمرّين ورغم ذلك صمدوا بفضل قوّة «العقل المدني» الذي صنع ـ بالفعل ـ مجد هذا البلد فلم يحمل «سلاحا ولا جمرا» ـ كما يقولون ـ وإنما هو تحرك ـ سلميا ـ في كل الاتجاهات من انتقال الى انتقال ومن حال الى حال الى ان وصل بعد عناء الى ما نحن عليه اليوم وبعدما تم اسقاط منظومة الخراب في تلك الليلة المشهودة من صيف 2021 وتحديدا يوم 25 جويلية حيث اطلق الرئيس قيس سعيد مشروعه السياسي ثم توغّل عميقا في بناء وتأصيل الدولة ومؤسساتها وأجهزتها وخاصة على المستوى التشريعي وعلى رأسها دستور 2022 الجديد الذي منح دولة الرئيس صلاحيات تنفيذية مطلقة لادارة مرحلة صعبة سياسيا واقتصاديا ومجتمعيا توجت بعهدة رئاسية ثانية حصّل الرئيس في انتخاباتها شرعية مريحة ومشروعية واسعة والحق نقول فإن تونس بصدد التعافي ولئن كان ذلك بصعوبة وبامكانيات قليلة فإن تعافيها النهائي ممكن وغير مستحيل ما دامت النوايا صادقة والعزائم قوية وخاصة على المستوى السياسي حيث تتحرك «دولة الرئيس» بعدما انتهت من ارساء مؤسساتها في كل الاتجاهات من أجل الوصول الى ما يمكن اعتباره «خلاصا نهائيا» وكل المؤشرات تؤكد بأن تونس قد وجدت بوصلة نجاتها وبأنها على «المسار الامثل» رغم «تعثرات الطريق» وهي متعددة ـ في الواقع ـ وتمثل تحدّيا «للدولة ومؤسساتها» المطالبة بترجمة الشعارات الى حقيقة على أرض الواقع التونسي فالرهانات كبيرة والأرض رخوة ما يستدعي «وحدة وطنية صماء» كما أشار اليها الرئيس قيس سعيد في اجتماع مجلس الوزراء الأخير و«الوحدة الوطنية» تعني وجود شركاء وطنيين للمساهمة في ادارة شؤون الدولة والمجتمع ووجودهم ضروري ـ في الواقع ـ «كحزام أمان» من حول السلطة وهي في حاجة حقيقية الى ما يسمى «بالعقل المدني» وهو عقل ابتكاري تربّى على الحوار وعلى الفعل وقد جُرّبَ سنوات ما بعد الثورة ونجح ـ بالفعل ـ في ادارة كل الأزمات التي عاشتها تونس والمقصود «بالعقل المدني» هو المنظمات والنقابات بما في ذلك الاحزاب الوطنية التي لم تتورط في الفساد ولا في التآمر على أمن البلاد وسيادتها… والحقيقة التي لا يمكن انكارها هي وجود عديد الشرفاء الوطنيين ممّن يمكن التعويل عليهم «كشركاء طريق»…
هذا على المستوى الوطني ولا يمكن مقارنته ـ في الواقع ـ وكما أشرنا بما يحدث في دول الجوار العربي والاقليمي والدولي حيث التشوهات عميقة على جسد هذا العام الذي ينتهي متعثرا في دم الأبرياء وضحايا الحروب الهمجية.
نبدأ من السودان حيث اندلعت الحرب بين الاشقاء منذ أفريل 2023 لتمتد الى غاية اليوم… حرب دموية فضائحية بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع أسفرت بحسب احصائيات منظمة الصحة العالمية عن مقتل ما لا يقل عن 20 ألف شخص وسط صراع دموي تحوّل الى مأساة كبرى منسية وقد غفل عنها الاعلام العربي والغربي وإن تحدث عنها فبشكل عابر كما تخلت عنها المنظمات الدولية الانسانية والحقوقية رغم حجم المأساة وحجم الفظاعات مع العلم أن أكثر من 13 مليون شخص قد اجبروا على الفرار وتحولوا الى لاجئين في دول الجوار.
من السودان الى غزة التي اسقطت كل الأقنعة وكل الزيف وكل الانتهازيات… غزة التي فضحت الجريمة الصهيونية وقدمتها عارية تماما كالحقيقة… حقيقة الهيمنات الاستعمارية القديمة التي تتحكم في مصائر الشعوب وفق آليات فرز استعماري عنصري… غزة في مأساتها الممتدة منذ 7 أكتوبر 2023 الى يوم الناس هذا اسقطت مجلس الامن ونزعت عنه مصداقيته واسقطت الاعلام الغربي وكشفت ألاعيبه… عرّت زيف الديمقراطيات الأوروبية والامريكية وأطاحت بأدبيات العدل والمساواة وحقوق الانسان… وما تزال ـ الى الآن ـ تحت وطأة الجريمة الصهيونية تحت أنظار العالم وهو يحصي الموتى الشهداء وقد تجاوز عددهم الاربعين ألفا… والعدد كافٍ للوقوف عند حجم المأساة…
من السودان الى غزة مرورا باليمن الذي كان سعيدا قبل ان يهلكه «ربيع الانتكاسات» وصولا الى سوريا الذي عاد اليها «الربيع» متأخرا تحت الرعاية «الأردوغانية» وبذات الأيادي التي تحمل «معاول الخراب» داعش أو القاعدة أو هيئة تحرير الشام كلّها جماعات ارهابية يحرّكها نفس اللاعب من أجل توزيع الاوراق والثروات والخرائط في منطقة الشرق الاوسط لصالح «اسرائيل» التي تتهيأ لتصبح القوة العظمى في المنطقة عسكريا واقتصاديا بجوار دويلات عربية منزوعة السلاح والارادة…
من السودان مرورا بغزة واليمن وسوريا لايختلف الوضع في الجهة الأخرى من القارة على طرفي آسيا وأوروبا حيث الصراع واسعا ودمويا ومعقدا وقد انخرطت فيه أوروبا بكامل ثقلها بدفع أمريكي صلب وقوي ونتحدث هنا عن الحرب الروسية الأوكرانية والتي أثرت ـ بالفعل ـ على اقتصاديات العالم بما في ذلك الاقتصاد الوطني لأسباب كنا أشرنا اليها في ورقة سابقة وهي الحرب التي أعادت توزيع أطراف القوى في العالم الذي تحوّل الى «عالم قطبي» سيفرز بالضرورة «نظاما دوليا» جديدا طرفاه الصين كقوة عسكرية واقتصادية كبرى مقابل الولايات المتحدة حيث سيقود الصراع بينهما الى صعود أنظمة محدودة ستضطر لاجراء تحالفات عسكرية إما مع الصين وإما مع الولايات المتحدة الأمريكية ما يشبه تقريبا مرحلة الحرب الباردة بين الاتحاد السوفياتي وأمريكا…
وسط كل هذه التشوهات التي يشهدها العالم أصبحت القناعة راسخة اليوم لدى الشعوب بأن القانون الدولي بما في ذلك المنظمات الدولية لحقوق الانسان والجمعية العامة للأمم المتحدة وغيرها لم يعد لوجودها أي تأثير فالعلاقات الدولية ـ اليوم ـ أصبحت قائمة على القوّة الاقتصادية والعسكرية لفرض التوسع والهيمنة…
تنسحب سنة 2024 غير مأسوف عليها مخلّفة وراءها آثار تشوهات كبرى على كامل الجغرافيا الاقليمية والعربية والدولية… تنسحب ببطء وتتعثر في ما تركته وراءها من انتكاسات وبما يدل على هشاشة الحضور الانساني وانهيار ما كنّا نعتقد فيه من قيم تنظم الحياة البشرية وتحفظ سلامة الشعوب والدول…
كل عام وتونس بخير عصيّة على اعدائها…
معنى «أن يتحلّى كلّ مسؤول بعقلية نضاليّة»..!
«أن يتحلى كل مسؤول بعقلية المناضل» فكرة فريدة طرحها الرئيس في المجلس الوزاري الأخير في تأ…