في الشأن التربوي : المدرسة والقيم الجديدة
تفاعلا مع فاجعة انتحار المدرس الأستاذ الجلولي – رحمه الله – مضرما النار في جسده بعد تعرضه لتنمر من طرف مجموعة من تلاميذه في المدرسة وخارجها حسب الروايات المتطابقة حول الحادثة ، تطرح هذه النهاية الأليمة وغيرها من الاعتداءات على المدرسين ، وإن كانت نادرة ، تساؤلات مهمة حول تهديدها لمكانة المدرّس وهيبته في منظومتنا التربوية اليوم، وحول ظاهرة تطاول بعض التلاميذ على مدرسيهم، وحول دور العائلة ، وحول المحيط المجتمعي للمدرسة ومدى دعمه للدور الذي ينتظر أن تلعبه المدرسة في تكوين الناشئة وتجذيرهم في قيمهم الأصيلة وإعدادهم لتحمل مسؤولية بلادهم في المستقبل .
القيم المجتمعية هي قواعد يقوم عليها النسيج الاجتماعي، لأنها تحدد سلوكنا الاجتماعي المقبول منه والمرفوض. ولأنها مبادئ أخلاقية نابعة من ثقافة المجتمع وعاداته وتقاليده وحضارته عموما ، فهي التي ترسّخ مبدأ العيش معا الذي يجمع بين كل أفراد المجتمع . ورغم ثبات بعض القيم في المجتمع، إلا أن أغلبها يتغير وفق تغير طريقة اشتغال المجتمع المحلي أو العالمي وتطوره، فتلغي التفاعلات المجتمعية بعض تلك القيم أو تغيرها ، وتتسرب قيم جديدة في المجتمع تحتاج مؤسساته المختصة كالتربية والتعليم إلى التعامل معها. ويشهد العالم اليوم ظهور قيم جديدة بدأت تزحف إلى سلوكات الناشئة . فكيف التعامل معها ؟
القيم المجتمعية والتنشئة
تلعب القيم المجتمعية دورا أساسيا في تحديد سلوكات الأفراد، وتوجّه مواقفهم وأفعالهم ، وفق معايير أخلاقية وثقافية متفق عليها تنظم سلوك الأفراد وكيفية تعاملهم مع بعضهم البعض داخل المجتمع من أجل تشكيل هويتهم الاجتماعية، وتحقيق اتزانهم النفسي، وتقوية شعورهم بالانتماء . ويتم اكتساب القيم عبر الأجيال المتعاقبة، من خلال التنشئة الاجتماعية بواسطة الأسرة والمدرسة والأتراب والتفاعلات مع المحيط الاجتماعي ووسائل الإعلام … وتلعب المدرسة دورا هاما في غرس القيم الاجتماعية لدى الناشئة لذلك تعمل في إطار وظيفتها التربوية ( الفصل 8 من القانون التوجيهي 2002) على تربية الناشئة على القيم الجماعية وقواعد العيش معا … وفصًل القانون التوجيهي تلك القيم مركزا على الأخلاق الحميدة، والحس المدني، والمواطنة ، والحرية، والمسؤولية، والتضامن، والعدل، والإنصاف، والمساواة، وحب العمل، واحترام الحقوق والواجبات … وتعمل المدرسة على ترسيخ تلك القيم المجتمعية لدى الناشئة وتدريبهم على كيفية استخدامها في حياتهم العملية، من خلال البرامج المدرسية، والأنشطة التربوية المختلفة، والمشاريع المشتركة، ومن خلال تطوير الجانب العلائقي بين الفاعلين في المدرسة، وأخذ المدرس القدوة الحسنة للناشئة نموذجا يتبعونه في بناء شخصياتهم. ويكون كل ذلك بالتعاون مع الأسرة.
إن ترسيخ تلك القيم لدى الناشئة عامل يعزز التماسك الاجتماعي ويدعم استقرار المجتمع . وتلعب المدرسة في ذلك دورا حيويا . لكنها أيضا مطالبة بالتعامل مع القيم الجديدة التي تطرأ على المجتمع بسبب ظروف حياتية جديدة أو بسبب التطورات التكنولوجية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية .. والعمل على إدماجها في البناء القيمي المجتمعي المحلي، إن كانت مقبولة ومساعدة على التماسك الاجتماعي، أو التخلص منها إن كانت تتعارض مع المبادئ الأخلاقية المتفق عليها في المجتمع . لذلك فللمدرسة مسؤولية تجاهها.
القيم الجديدة والمدرسة
سنحاول تجميع القيم الجديدة التي أشارت إليها بعض الدراسات المتخصصة . فمثلا تؤكد المؤسسة الخيرية wide Fondation التي تعمل منذ 2001 في مجال التوجهات الاجتماعية الجديدة في العالم وخاصة أوروبا وكيفية بناء سيناريوهات المستقبل ، أن شباب اليوم يؤمنون حسب باحثين في علم الاجتماع من فرنسا وبلجيكا بخمس قيم تلخصها المؤسسة في نموذج «لارس» LARSS . وهذه القيم الجديدة هي : 1- الوفاء الاجتماعي الأفقي مع من يشترك مع الشباب في المصالح . ولا يقصد به الوفاء العمودي تجاه حزب سياسي أو رب أسرة أو عمل ..، 2- الاستقلالية والحرية في تسيير حياتهم واتخاذ القرارات التي يرونها دون تدخل خارجي ، 3- التواصل مع الآخرين لكن في شكل شبكي وبالشراكة معهم وبانفتاح واسع على العالم ، 4- الحاجة إلى فهم ما يقومون به من أفعال وأن يكون لها معنى بالنسبة إليهم مع الرغبة في أن يتوج ذلك بنتائج ، 5- البحث عن النجاح في ما يصدر عنهم من أفعال . وتضيف المؤسسة أن الشباب يميلون اليوم إلى تطبيق منطق الفائدة. فبالنسبة إليهم من الضروري معرفة الفائدة من أي شيء قبل التفكير في اقتنائه .
ورغم محافظة المجتمع التونسي بنسب مختلفة بين أفراده على القيم السائدة، مثل المساواة والحرية والمسؤولية وعمل الخير وحب العمل والصدق …فإن هناك قيما أخرى سيفرضها التطور في القرن 21 نتيجة تغييرات اقتصادية وتكنولوجية وثقافية… وسيكون لها صدى بين شبابنا وفي مجتمعنا ، من أهمها حسب الدراسات في الموضوع : العلم والمنطق أساس اتخاذ القرارات ، قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان ، الخصوصية الثقافية بما في ذلك اللغة الأم في مواجهة العولمة، الالتزام بالقضايا البيئية ، العمل الجماعي والتشاركي رغم ازدهار قيمة الفردانية، قيم التجديد والابتكار والإبداع أو التفكير خارج الصندوق ، الشفافية والنزاهة ، المسؤولية الاجتماعية أو التطوع من أجل المصلحة العامة ، الخصوصية والأمان عند استعمال شبكات الأنترنات ووسائل التواصل الاجتماعي ، التنمية المستدامة ، التفكير النقدي ، التعلم مدى الحياة…
وفي صورة حصول تحولات في البناء القيمي لدينا بفضل تسرب القيم الجديدة إلى مجتمعنا ، فإن ذلك يدعونا إلى تناولها بكل جدية وإدماج المفيد منها في البرامج التعليمية وضمن الأنشطة المدرسية . لأنها تؤثر على السلوكات الأخلاقية للناشئة في مجتمعنا عموما ، وفي طريقة تواصلهم مع الآخرين. إن القيم الجديدة التي قد تكون تسربت إلى مجتمعنا – نحتاج إلى دراسة اجتماعية لتحديدها – أو تلك التي يمكن أن تتسرب لاحقا، سيكون لها تأثير على العلاقات الاجتماعية بين الأفراد في المدرسة وخارجها، فإما أن تحسّنها أو تؤثر عليها سلبا . والعناية بها وبكيفية التعامل معها توفر لنا بيئة اجتماعية مستقرة ومتماسكة. ونظرا لأهميتها فإنها ستساهم بشكل كبير في بناء أجيال قادمة مواكبة للتطور وقادرة على مواجهة تحديات المستقبل.
في الشأن التربوي أهمية اللغة العربية «اللغة الأم» في تكوين الناشئة
نحتفل باليوم العالمي للغة العربية يوم 18 ديسمبر من كل عام . وهي ذكرى اعتماد اللغة العربية …