ضمن المسابقة الرسمية للأفلام الروائية الطويلة، الفلم المغربي « المرجا الزرقا» لداوود أولاد السيد: يوسف، الأعمى الجميل الذي رأى كلّ شيء
ما الذي يمكن إضافته إلى كلّ الروايات والأفلام التيّ تحدّثت عن صبيّ أعمى يجد نفسه في شباك العمى ؟
يدهشنا الفلم المغربي “ المرجا الزرقا” لداوود أولاد السيّد بمقاربته لموضوع العماء والبصيرة، دون زخارف القول، ودون تكرار لـ” ما شاهدناه من قبل”.
يوسف صبيّ كفيف، وقد قام بدوره بصدقيّة مربكة ولدٌ أعمى، يعيش مع جدّه علال سائق التاكسي ومع جدّته في بيت متواضع في قرية صحراويّة. له صديقة اسمها زينب تتجوّل به في الواحات، وهو مُغرم بالتقاط الصور من آلة التصوير التي اشتراها له جدّه كي يُسعده. المفارقة أنّ له القدرة على التقاط صور مُبهجة دون أن يرتبك الإطار. وهو لا يفوّت أيّة فرصة لالتقاط الجمال، كأنّه يريد حفظه وتأبيده ليريه لما يرغب في الرؤية، هو الأعمى الذي يحدس أنّ له مكانا في الكون وموضع تماما مثل النجوم التي ترصّع السماء. نراه في مشهد آسر وقد جافاه النوم يخرج إلى باحة البيت ثمّ تصعد الكاميرا لتصوّره من فوق ثم ننتقل إلى السماء ذات النجوم، كأنّما ثمّة تناظر بينه وبينها، كأنّه نجم على هذه الأرض، كائن يملك النور في قلبه.
يسمع يوسف وهو مع جدّه في التاكسي أنّ هناك مجموعة من العميان السويسريين سيقدمون لرؤية “المرجا الزرقا”. يصبح هاجسه الأكبر ورغبته الأغلى أن يزورها وأن يراها. يرفض الجدّ وكذلك الجدّة، وأمام عناده ورفضه لكلّ شيء يستسلم الجدّ في نوع من التكفير عن الذنب فقد طلب منه والد يوسف الميّت أن يأخذه إلى الصحراء فلم يفعل، و طلبا للراحة من أوجاع الشغل. تطلب الجدّة من يوسف أن يحمل لها ماء من المرجا الزرقا التي توجد بها أسماك وطيور.
وعلى هذا النحو تبدأ رحلة الجدّ مع حفيده للوصول إلى مكّته؛ المرجا الزرقا. أراض جرداء تمتدّ على مدّ البصر، في صدف الطريق يلتقيان برجال شرطة، بمسافر صامت غريب يحمل معه جسما غريبا، دمية بلاستيكيّة من التي توضع في واجهات المحلات التجاريّة، كان يسندها إلى شجرة في الخلاء في مشهد فائق الغرابة، امرأة صامتة.
تتعطّل السيّارة وينزل الراكبان الغريبان الصامتان: المرأة والرجل صاحب الدمية. ويجد الجدّ نفسه مع حفيده في ضيافة رجل يهبهما جملين لعبور الصحراء. في هذا العبور يلتقي يوسف وجدّه بحارس البئر، الرجل الذي يعيش وحيدا يحرس بئرا كان يمرّ بها رالي باريس داكار، رجل المنطاد الذي يصعد معه ويلتقط، من علٍ الصور التي لن يراها. يقول يوسف لجدّه أنّه لا يسمع في هذا المكان سوى الريح. يردّ الجدّ بأنّ الريح تذكّر بهشاشة الانسان العابر على هذه الأرض التي ستمّحي منها حتّى آثاره. ولأنّ الرحلة كشف واكتشاف للذات ، يلحّ يوسف على جدّه كي يعرف قصّة التاكسي الملعونة التي كان يخفيها عنه كي لا يسبّب له مزيدا من الألم: لقد وقع حادث سير نتج عنه موت والدي يوسف وخلّف للجدّ آلاما في ظهره أمّا يوسف فقد فقد بصره. يشعر يوسف بالصدمة وبالخيبة من جدّه الذي أخفى عنه الأمر وكان مسؤولا عن إعاقته، العماء الذّي كان يعتقد أنّه وُلد به. من هول هذا الكشف يضيع يوسف في الصحراء إلى أن يلتقي جماعة من الصوفية مع شيخهم الذي يبدو أنّه كان بانتظاره كي يفتح بصيرته. يملك الطفل الأعمى استعدادا فطريّا لقبول الامداد. سبق وأن قال لجدّه بوثوق أنّه رأى الله. لذلك كان لابدّ له أن يلتقي بشيخ كان في انتظاره، في خلاء نفسه باعتباره مجازا عن الذات العميقة التي تحتاج إلى الرحلة وإلى إظهار الباطن الذي يسعُ كلّ شيء.
يقول له الشيخ الجليلُ إنّ كلّ شيء في هذا العالم تجلّيات وصور مكنوزة في الداخل. في نواة التمر تكمن صورة النخلة، والله هو المُصوّر. ولعلّ يوسف في افتنانه بالصورة هو يحاول على نحو ما يفعل المتصوفة أن يتشبّه بهذا الاسم، من بين أسماء الله الحسنى الأخرى.
ينتهي الفيلم بمشهد الجدّ الذي “يُوهم “ حفيده بأنّهما قد بلغا المرجا الزرقا. لا نرى شيئا. يسأل الحفيد لماذا لا أسمع صوت الماء؟ يردّ الجدّ انّه ساكن في هذا الوقت. أين الطيور؟ يردّ الجدّ أنّها قد هاجرت. أريد أن أملأ قارورة ماء لجدّتي وأن ألمس الماء في البحيرة الزرقاء. يقول الجدّ أنّ هناك أوحالا ستعيقه. تتعطّل بطارية آلة التصوير، عند نهاية الرحلة وبلوغ المرام ولكن يوسف يبدو مطمئنّا وواثقا أنّه بلغ مقصده، البحيرة التي تنشأ منها كلّ الصور.
في المشهد الختامي، نرى يوسف في واحة مع زينب التي كانت تتابع توارد صور الرحلة مصحوبة بشروح الصبي الكفيف. كنّا ننتظر أن يُصاب بالخيبة من جدّه مرّة أخرى حين لا تجد صاحبته صور البحيرة ، بل الخلاء وعراء الصحراء. ولكن يوسف الأعمى البصير يصف البحيرة كمن رآها حقّا بعد أن وجد نواتها مكنوزة في الدواخل، في نفس الوقت الذي يعمّ فيه السوادُ الشاشة، كأنّه العدم الذي يخرج منه كلّ شيء: تجلّيات الخلق وصوره، من خزائن المصوّر الأعظم.
افتتح أيام قرطاج السينمائية، الفيلم الفلسطيني « ما بعد» لمها الحاج: ما بعد عزلة الفلسطيني الأخيرة
في السهرة الافتتاحية لأيّام قرطاج السنمائية في دورتها 35 عُرض الفيلم الروائي القصير” ما ب…