«أن يتحلى كل مسؤول بعقلية المناضل» فكرة فريدة طرحها الرئيس في المجلس الوزاري الأخير في تأكيد على أن حجم الخراب الكبير الذي ضرب البلاد في أكثر من مقتل انما يستدعى طاقة كبرى وعقلا نضاليا استثنائيا الى غاية الخلاص النهائي وبالتالي فإن المرحلة في حاجة الى «مسؤول ابتكاري» والى «رجال دولة» بعقلية نضالية حقيقية غير متهاونة مهما كان حجم الاستعصاء..

لقد طرح الرئيس قيس سعيد فكرة من النادر ان يطرحها أهل السياسة خاصة اذا ما كانوا في المواقع المتقدمة من السلطة حيث خاطب الحكومة خلال المجلس الوزاري الأخير بقوله:

«الإرث ثقيل وحجم الخراب كبير وعلى كل مسؤول ان يتحلّى بعقلية المناضل الذي يدافع عن وطنه وعن شعبه وان يكون شعاره إني فداء لهذا الوطن..»

فما معنى ان يتحلّى المسؤول السياسي بعقلية المناضل…؟ وهل يمكن الجمع بين النضال كفعل أو كفكرة متعارضة ـ بالضرورة ـ مع السلطة السياسية التي تمسك بكل مفاتيح «الحلّ والعقد» والمطالبة بتنفيذ قوانين الدولة الطاردة ـ بالضرورة أيضا ـ لفكرة المسؤول الذي يتحلّى بعقلية المناضل.

يستبطن الرئيس ـ في الواقع ـ «فكرة النضال» من ثقافته الشخصية ومن السياقات التي خرج منها وأنتجت لديه «بالقوّة» خطابا ثوريا نضاليا ضدّ  السلطة ذاتها… السلطة الانتهازية والسلطة الفاسدة والسلطة المتعالية على مواطنيها والسلطة العاجزة غير القادرة على الاجابة عن أسئلة مواطنيها والسلطة العميلة التي مارست كل أشكال التخريب والتدمير للدولة ومؤسساتها والسلطة التي لا تخفي ولاءها لاطراف اقليمية ودولية وتنكر ولاءها للوطن وللشعب… وكان الرئيس قيس سعيد شاهدا على هذه «السلطة الفاسدة» في بداية عهدته الأولى وقد عافها كما عافها التونسيون لذلك لم يتردّد وأطاح بها يوم 25 جويلية 2021 وكان سقوطها مدويا ومشهودا وقد تركت من ورائها إرثا ثقيلا وخرابا بحجم العواهن وهو ما أشار اليه الرئيس في كلمته أمام مجلس الوزراء أول أمس وما يفسّر أيضا قوله:«على كل مسؤول ان يتحلى بعقلية المناضل الذي يدافع عن وطنه وعن شعبه»…

الفكرة التي يطرحها الرئيس قيس سعيد هي فكرة حديثة في الادبيات السياسية والتي تؤكد خلاصاتها على تهرّؤ وتآكل كل أشكال الممارسات النضالية الكلاسيكية التي تربط «النضال» أو هي تحصره داخل مربعات الانتماء الحزبي أو النقابي أو داخل مربعات الحساسيات الفكرية والايديولوجية.. بحيث لم يعد لهذا الطرح الأركاييكي ـ كما أشرنا ـ حضور قوي في الادبيات السياسية الحديثة التي بشّرت بموت الفكرة التي تصِلُ النضال بالانتماء الحزبي أو النقابي مقابل ظهور وعي نضالي جديد وأكثر فاعلية وقوّة مرتبط أساسا بالفضاء العام المشتبك ـ دون وسائط حزبية أو نقابية أو حقوقية ـ بوضعية الناس الاجتماعية والاقتصادية والحقوقية.. فبعد ما فقدت الاحزاب السياسية شعبيتها وبعدما نفرت منها القواعد الشبابية خاصة فإن «الفضاء العام» غير المحكوم بالانتماء الحزبي أو الايديولوجي هو الذي يحتوي ـ الآن ـ أشكال النضال الحديث وممارساته داخل الفضاءات المشتركة وليس النضال ـ بالضرورة ـ فعل معارضة للسلطة السياسية ولا هو ممارسة احتجاجية فقط وإنما هو أيضا التزام بقضايا الدولة والمجتمع من باب التشارك والاسناد المواطني.

و«المسؤول الذي يتحلى بعقلية المناضل» كما قصده الرئيس هو «ذاك المتولي الى الظل حين المغنم ـ والمتقدّم تحت حمأة القيظ حين المغرم» ـ كما يقول العرب ـ أي المسؤول المتعفّف غير المتعالي على قضايا ومشاغل مواطنيه المنتصر للحق مهما استعصى وتجبّر.. يصل الليل بالنهار وقد نذر نفسه وحياته لمسؤولية جسيمة وثقيلة من أجل سلامة ورخاء هذه البلاد التي نسميها وطنا ولا يسعى في كل ذلك الى تحقيق مجد شخصي ولا الى غنم من أجل نفسه وعائلته ومدافع شرس عن فكرة الانتماء لا إلى الحزب أو الايديولوجيا وإنما لفكرة الانتماء المواطني بكل ما تحمله المواطنة من ثقل قيمي وأخلاقي.

نعم «الارث ثقيل وحجم الخراب كبير وعلى كل مسؤول ان يتحلى بعقلية المناضل الذي يدافع عن وطنه وشعبه»… فتونس لم تعد تتحمل حجم الاعطاب التي عطلتها على امتداد عقد ونيف ولم تعد تتحمل حجم الاعطاب التي ضربت كل القطاعات الحيوية وحولتها الى «ركام من الخردة» ولم تعد تتحمل ـ أيضا ـ «مسؤول أريكي» يعمل من أجل تحقيق مجد شخصي وإنما في حاجة الى «مسؤول ابتكاري» يسمى في الادبيات السياسة «رجل دولة» مؤهل لوضع الاشياء ـ أفكارا ورؤى ومواقف ـ حيث ينبغي وفي الوقت الذي ينبغي وعلى الوجه الذي ينبغي…

لقد أهدرت تونس وقتها على امتداد عقد ونيف تحت حكم «النطيحة والعرجاء» ومرّ على حكمها اللصوص والمرتزقة والعملاء والانتهازيون ـ ما عدا من رحم ربك ـ فنهبوا ما نهبوا من ثرواتها القليلة ودمروا ما دمروا من مكاسبها بل «أكلوا الشعب والعشب» ـ كا يقول الشاعر ـ الى أن رحلوا غير مأسوف عليهم…

لا نعرف حقيقة مدى انسجام أعضاء الحكومة مع الفكرة التي طرحها الرئيس قيس سعيد في قوله :«على كل مسؤول ان يتحلّى بعقلية المناضل الذي يدافع عن وطنه وعن شعبه» ولكنّنا نعرف ـ في الواقع ـ مدى انسجام الرئيس مع فكرته وهو الذي يتحرك ويتحدث ويخاطب مواطنيه «بعقلية المسؤول المناضل» الملتصق بمشاغلهم وقضاياهم بالفعل لا بالمجاز ويتجلى ذلك ـ بعمق ـ في زياراته غير المعلنة وفي احاديثه ذات الحمولة الثورية الثقيلة وفي حماسته وفي حدة خطابه حينما يتعلق الامر بالفساد ولوبياته وبالمتآمرين على سلامة البلاد وأهلها… نفس الشيء حينما يتعلق الأمر بالسيادة الوطنية وباستقلالية القرار الوطني فالخطاب الرئاسي حاد وصارم وعالي النبرة ولا تحفظات لديه وهذه ـ في الواقع ـ طبيعة «المسؤول الذي يتحلى بعقلية المناضل» فلا تسامح لديه ولا تواطؤ عندما يتعلق الامر باستقلالية القرار الوطني وبالسيادة الوطنية عموما فهذه خطوط حمراء لا يمكن المساس بها على الاطلاق…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

هذه تونس التي نريد..!

تمرّ على التونسيين اليوم الثلاثاء 17 ديسمبر «ذكرى الثورة» بعد تعديل تاريخها الذي كان موافق…