تمرّ على التونسيين اليوم الثلاثاء 17 ديسمبر «ذكرى الثورة» بعد تعديل تاريخها الذي كان موافقا لتاريخ 14 جانفي 2011… وهي ذكرى الاحتراق التراجيدي الذي أجراه محمد البوعزيزي على جسده احتجاجا على الضيم ـ كما جاء في رواية الثورة ـ ومن هذه التراجيديا كاد التونسيون ان يصنعوا «ملحمة تاريخية» لولا التشوّهات العميقة التي ضربت «ثورتهم» في مقتل وعطّلت كل امكانات الانتقال السريع من الدولة المنهارة (دولة بن علي) الى «دولة الثورة» دولة الحقوق والحريات والعدالة الاجتماعية كما كان يشتهيها «ثوّار المرحلة» «في زمن الاحلام الكبرى»…

تاريخيا… لا وجود لثورة حققت مشتهى ثوّارها وأحلامهم ورفاهيتهم… ولا وجود لثورة اكتملت أو حققت اكتمالها مباشرة بعد قيامها… فكل الثورات عبر التاريخ إنما امتدت وتكلفّت باهظا على الشعوب وبعضها لم ينجز ما قامت من أجله الا بعد سنوات صعبة وكبيسة وبعدما قدمت ضحايا أغلبهم من «ثوّار الحماسة الاولى» ممّن لا يذكرهم التاريخ عادة وإن ذكرهم فبشكل عابر ومن باب «تعداد الموتى»… فالثورة الفرنسية ـ مثلا ـ وهي «أمّ الثورات» كما يصفها المؤرخون امتدّت على أكثر من عشر سنوات (من 1789 ـ 1799) وأكلت ما أكلت من أبنائها وكانت الأكثر دموية في تاريخ الثورات… وقس على ذلك كبرى الثورات في تاريخ الانسانية.

والثورة التونسية كانت ـ في الواقع ـ استثناء والأكثر سلمية مقارنة بالثورات الدموية التي شهدها التاريخ الانساني ولم يكن فيها حجم الخسائر البشرية كبير لذلك سُمّيت «بثورة الياسمين» وقد «فاح عطرها» وتسرّب الى دول الجوار وكان ما كان كما هو معلوم في رواية الثورة المصرية والثورة الليبية وثورة اليمن الذي كان سعيدا ثم الثورة السورية التي امتدت على عقد ونيف استعصى خلالها نظام الأسد الى ان تم اسقاطه منذ أيام لتتسلم البلد من بعده جماعات متشدّدة خارجة لتوّها من تحت جبّة «الزرقاوي»…

عود على بدء بحيث تتكرّر «الحكاية الثورية» لتستنسخ «سيناريو القدحة التونسية» ـ تماما ـ كما جرت على ليبيا وعلى مصر وعلى اليمن وأخيرا على سوريا… وما جرى على التونسيين منذ 17 ديسمبر 2010 مرورا بـ 14 جانفي 2011 وعلى امتداد عقد ونيف كان ثقيلا وصعبا شهد خلالها التونسيون المرحلة الأكثر شقاء خاصة بعدما استولى الاخوان على الحكم حيث وفدت على البلاد كل السلفيات المتشدّدة والجماعات المسلحة وكل رهوط الارهاب وشيوخه وقد عرفت تلك الفترة صراعا «هوويا» حادّا استبيح خلاله الدم باسم الله وتم استهداف المؤسستين العسكرية والامنية واغتيل خلالها سياسيون وأمنيون ومدنيون واشتبك فيها المال الفاسد بالسياسة الفاسدة بإعلام متواطئ مع الفساد وتم في الاثناء إنشاء أمن مواز وميليشيات وأذرع اجرامية تابعة للحزب الاخواني الحاكم كما تم تقسيم البلد الى ديار كفر وديار ايمان… وغيرها من مظاهر الانهاك التي عطلت الدولة والمجتمع ودمرت مؤسساتها…

لم يهنأ التونسيون بثورتهم منذ أحرق البوعزيزي جسده صباح 17 ديسمبر 2010 بحيث ساء حالهم وحال أبنائهم مع حكومة الترويكا الأولى والثانية ولم يكن الحال ليختلف مع كل الحكومات التي جاءت من بعدهم الى أن طلع  «شاهد من الشهود عليهم» كان قد خبرهم في بداية عهدته الرئاسية الأولى ووقف على حجم فسادهم وانتهازيتهم وعمالتهم فقرّر الاطاحة بهم ذات مساء صيفي بتاريخ 25 جويلية من سنة 2021 فكانت سقطتهم مدوّية ومن حيث لم يتوقعوها مطلقا..!

«داهم» الرئيس قيس سعيد كل المنظومة بكل عناوينها الاخوانية وفكّ اشتباكها وقد رحبّ التونسيون بهذه الخطوة الجريئة التي أقدم عليها الرئيس واعتبروها تصحيحا «للمسار الثوري» الذي استولى عليه «الاخوان» لأكثر من عشر سنوات وكان الرئيس قد وعد التونسيين بعدما اتخذه من اجراءات ازاحت كل المنتسبين للمنظومة الاخوانية ببلد عادل وسخي وحياة كريمة تعيد للتونسيين  الأمل وتفتح الآفاق أمامهم وأمام أبنائهم وتنهي حالة الاحباط والشقاء… ورغم صدق النوايا وقوّة العزائم فإن «الانقاذ» لم يكن سهلا ولم تكن طريقه سالكة وسريعة باعتبار حجم الانهيارات والتشوهات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وحجم الخراب الذي ضرب الدولة ومؤسساتها على امتداد «عشرية الخراب» وقد استدعت مرحلة ما بعد 25 جويلية 2021 اصلاحات كبرى لانقاذ ما تداعى قطاعيا وخاصة في التربية والنقل والصحّة وكانت البداية مع اصلاحات تشريعية كبرى توّجت بدستور جديد أعاد تنظيم العلاقة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية بمجلسيها وأعطى للرئيس صلاحيات تنفيذية واسعة تؤهله لادارة المرحلة بارتياح… ثم وبعد تأصيل الدولة أركانها ومؤسساتها اطلق الرئيس حملة وطنية لمقاومة الفساد وحملة لتطهير الإدارة من كل العناصر التي تعمل على تعطيل مسارات الاصلاح… وللحقيقة والتاريخ فإن حجم الخراب ثقيل جدّا ولا يقلّ ثقلا عن حجم الفساد الذي صنع «دولته» واتسع ليضرب أكثر القطاعات حيوية ماجعل من مهمّة الإنقاذ صعبة لكنّها لم تكن مستحيلة في الواقع..

وبما ان تونس ليست معزولة عن محيطها الاقليمي والدولي فإن مسار الاصلاح والانقاذ قد تعطل بل هو تأثر بشكل مباشر وخاصة على المستوى الاقتصادي بفعل تداعيات الحرب الروسية الاوكرانية وحركة الهجرة غير الشرعية. وغيرها من الازمات في اقتصاديات العالم ورغم ذلك فإن تونس بصدد التعافي رغم ارباكات الطريق…

تمرّ اليوم على التونسيين ذكرى ثورة 17 ديسمبر وتجيء من بعدها ذكرى 14 جانفي وبين هذه وتلك عشر سنوات ونيف من الشقاء والاحباط ثم مسار انقاذ بتاريخ 25 جويلية 2021 بصدد التخلّص من التشوهات التي ورثها وهو يتقدّم بوثوق في اتجاه تونس التي نريد.. تونس الحقوق والحريات والعدالة الاجتماعية وهذه ـ في الواقع ـ شروط من شروط العمران..!!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

ما بين «طوفان الأقصى» و «سقوط» نظام الأسد : إفراغ المنطقة من عناصر قوّتها كان مدروسا وممنهجا..!

بعيدا عن كل أشكال الاصطفاف الاعمى مع أو ضد بشار، علينا ان ننظر الى السقوط السريع والمفاجئ …