بين التحديات البنيوية والتطلعات الرقمية: منظومة التعليم العمومي في قلب التحولات الوطنية
لطالما شكّل التعليم حجر الزاوية في مسيرة تونس نحو التقدّم والتنمية ومنذ استقلال البلاد عام 1956 إلى اليوم، كانت المدرسة العمومية قاعدةً أساسية لبناء مجتمع متعلم ومنتج ومع ذلك، فإن التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي شهدتها تونس، خصوصًا في العقد الأخير، ألقت بظلالها الثقيلة على جودة التعليم ، مما استدعى ضرورة القيام بإصلاح شامل يواكب التحديات المعاصرة.
في افتتاح ورشة المخطط الاستراتيجي للتربية للفترة 2035-2025، أعلن وزير التربية نور الدين النوري التزام الوزارة بإصلاحات جوهرية تهدف إلى تجويد التعليم العمومي، مشيرًا إلى أن المجلس الأعلى للتربية والتعليم سيكون العمود الفقري لهذه الجهود. هذه الورشة، التي جاءت تحت شعار «تحليل العوامل الملائمة لتحويل التعليم وإعادة ابتكار التعلمات»، تسلط الضوء على الطموح الوطني لإعادة هيكلة المنظومة التربوية لتكون أكثر عدلاً وكفاءة.
التحديات الهيكلية في المنظومة التربوية
يواجه التعليم في تونس مجموعة من التحديات التي تعيق تحقيق الجودة المطلوبة. أولاً، يعاني التعليم العمومي من مشاكل بنيوية ، أبرزها ضعف البنية التحتية للمدارس في المناطق الداخلية وغياب التجهيزات الأساسية في عديد المؤسسات التعليمية. ثانيًا، توجد فجوة واضحة بين المناهج الدراسية واحتياجات سوق العمل، مما أدى إلى ارتفاع نسبة البطالة بين خريجي الجامعات. ثالثًا ، تعاني المنظومة من نقص تكوين المدرسين وضعف الحوافز المادية، مما انعكس سلبًا على مستوى الأداء داخل الفصول الدراسية.
علاوة على ذلك، ساهمت الظروف الاقتصادية الصعبة في تفاقم الهجرة نحوالقطاع الخاص الذي يُنظر إليه، بشكل متزايد، كخيار أفضل من التعليم العمومي. هذا الاتجاه يهدد المدرسة العمومية بفقدان مكانتها كمؤسسة وطنية شاملة، ويؤدي إلى مزيد من الفوارق الاجتماعية.
رؤية الإصلاح: أهداف طموحة ومسار معقد
أكد الوزير في مداخلته أن الإصلاحات المبرمجة تسعى إلى ضمان «تعليم جيد ومنصف»، وهو هدف يبدو جذابًا ولكنه محفوف بالتحديات. هناك محاور رئيسية ينبغي التركيز عليها لتحقيق هذه الرؤية، أبرزها، الاستثمار في البنية التحتية حيث تحتاج المدارس، خاصة في المناطق النائية، إلى ترميمات شاملة وتجهيزات حديثة لخلق بيئة تعليمية ملائمة. إلى جانب تطوير المناهج الدراسية إذ يجب أن تواكب المناهج متطلبات الاقتصاد الرقمي وتزوّد التلاميذ والطلبة بمهارات القرن الحادي والعشرين مثل التفكير النقدي وحل المشكلات والإبداع.
نقطة اخرى مفصلية وتتعلق بتكوين المدرسين حيث يتطلب تحقيق التعليم الجيد تعزيز برامج تدريب المعلمين بشكل مستمر لضمان استخدام أساليب تعليمية مبتكرة وتحفيزية فضلا عن التكامل بين التعليم والتشغيل حيث ينبغي للمجلس الأعلى للتربية والتعليم أن يعمل على ربط المناهج الدراسية بمتطلبات سوق العمل، من خلال تعزيز التكوين المهني وإدماجه في النظام التعليمي.
كما أن الإصلاحات تقتضي ضمان تكافؤ الفرص بين جميع التلاميذ، بغض النظر عن وضعهم الاجتماعي أوالجغرافي، مما يتطلب سياسات دعم واضحة للطبقات المحرومة وهنا نتحدث عن التركيز على العدالة الاجتماعية بالأساس.
المجلس الأعلى للتربية والتعليم: بين الإشراف والتحديات
يمثل إنشاء المجلس الأعلى للتربية والتعليم خطوة هامة نحو تنظيم المنظومة التعليمية. وبصفته هيئة عليا مستقلة، يُفترض أن يتولى هذا المجلس مهمة رسم السياسات الكبرى والإشراف على تنفيذ البرامج الوطنية في مجالات التعليم والتكوين المهني والبحث العلمي.
لكن نجاح المجلس يعتمد على عوامل عدة، منها قدرته على العمل بمعزل عن الضغوط السياسية وتوفير التمويل اللازم لتحقيق أهدافه. كما يجب أن يضمن المجلس إشراك جميع الأطراف المعنية، من نقابات المعلمين وأولياء الأمور إلى الخبراء التربويين وممثلي القطاع الخاص، لتحقيق رؤية متكاملة للإصلاح.
الابتكار في التعلم: شرط للنجاح
في عالم يزداد تعقيدًا وترابطًا بفعل الثورة التكنولوجية، لا يمكن لتونس أن تحقق تقدمًا في مجال التعليم دون تبني أساليب تعليمية مبتكرة. إذ يشير الخبراء إلى أهمية استخدام التكنولوجيا لتعزيز التعلم التفاعلي، من خلال توفير منصات تعليمية رقمية وبرامج تدريبية تحاكي الواقع. كما أن إدماج التفكير الريادي في المناهج، عبر تشجيع التلاميذ على تطوير مشاريعهم الخاصة واستثمار مهاراتهم، يمكن أن يُسهم في خلق جيل قادر على تحويل الأفكار إلى فرص عمل.
يمثل التعليم العمومي العمود الفقري لأي رؤية مستقبلية تستهدف التنمية الشاملة في تونس. ولكن استعادة بريق المدرسة العمومية يتطلب إرادة سياسية حقيقية، واستثمارًا ماليًا كبيرًا، وشراكة فعالة بين القطاعين العام والخاص. إذ لا يكفي أن تُعلن الوزارة عن أهداف طموحة؛ بل يجب أن تقترن هذه الأهداف بخطة تنفيذية دقيقة، وآليات مراقبة صارمة لضمان تحقيق النتائج المرجوة.
في نهاية المطاف، يبقى التعليم وسيلة أساسية لتغيير الواقع الاجتماعي والاقتصادي. وإذا ما نجحت تونس في تنفيذ إصلاحاتها التربوية بالشكل الصحيح، فإن ذلك سيمثل قفزة نوعية نحو بناء مستقبل أفضل، تُصبح فيه المدرسة العمومية قاطرة للتغيير والتقدم، وليست مجرد ذكرى من الماضي.
مرّة أخرى الرئيس يتوقف عند « التخريب الممنهج» لقطاع النقل.. نحو مقاربة جديدة لإعادة بناء منظومة منهكة..!
يواجه قطاع النقل في تونس، منذ سنوات، تحديات متزايدة ألقت بظلالها على حياة المواطن اليومية …