افتتح أيام قرطاج السينمائية، الفيلم الفلسطيني « ما بعد» لمها الحاج: ما بعد عزلة الفلسطيني الأخيرة
في السهرة الافتتاحية لأيّام قرطاج السنمائية في دورتها 35 عُرض الفيلم الروائي القصير” ما بعد” لمها الحاج والحامل لعنوان ذي دلالة تدفع للتساؤل: أيّ ما بعد هذا الذي يعدُ به الموتُ الفلسطيني؟
الفيلم قويّ مدهش مفاجئ رهيف يروي حكاية الموت الفلسطيني اليومي وما يتعرّض له الفلسطينيون من الوجع والفقدان واللوعة ببساطة من لا يحتاج للصراخ ويكفيه البوح الخافت الهادئ فيما يشبه المناجاة، مناجاة المابعد كي يتدخّل ويوقف هذا الفتْك الذي صار عاديّا. ولعلّ صانعة الفيلم تعمّدت أن لا تخاطب هذا المابعد وأن تضع أبطالها، هناك، في أولمب الغيب.
ليس أبسط من هذه الحكاية لرواية وجع الفقدان. زوجان على عتبات الشيخوخة، على مشارف النهايات، يبدوان سعيدين يعيشان حياتهما على ايقاع رتيب، في البيت المزروع في مزرعة زيتون قصيّة. نراهما في الحقل وفي البيت منشغلان بشؤونهما الصغيرة، يتبادلان الحديث حول الأولاد الذين كبروا وصار لكلّ واحد منهم مسارات حياة مختلفة. الأب سليمان ( قام بالدور محمد بكري) يحبّ ابنته أكثر من أبنائه الذكور ولا يرغب أن تُخطب وتتزوج بل أن ترى العالم وتسافر. نفهم أنّ الأولاد البعيدين الغائبين في شتات ما يهاتفون العجوزين. خمسة أولاد على عدد الأصابع الخمسة، على عدد الصلوات الخمس، هم ذريعة العيش لأبويهما في عزلة حقل الزيتون الفلسطيني .
لاشيء يحدث سوى أنّ الطبيعة تُعلن عن نفسها: الضوء مُشبع بكثافة ما، فنحن في فصل الشتاء، والمطر يدقّ الأرض والبيت. يأتي إلى عزلة العجوزين ضيٌف غريبٌ “ خليل” ( قام بالدور عامر حليحل ) كي يكسر هذه الهدأة وطيب العيش الرتيب. إنّه صحفي قدم لاستكمال تحقيقه وهو يحتاج لشهادتهما، هما الأكثر مُصابا بعد القصف الذي قضى فيه كثيرون، بينهم والديه.
الصحفي كان صديق طفولة لخالد، الابن البكر للعائلة التي اختارت العزلة بعيدا عن العالم. يرفض سليمان ولبنى ( قامت بالدور عوين عمري ) استقباله في البدء ثمّ يفتحان له بيتهما الدافئ، مشفقين عليه من المطر في الخارج. نفاجئ بأنّ الصحفي، ينتمي إلى عالمنا هذا، بينما يقيم الوالدان في عالم آخر. نعرف أنّ الأبناء الخمسة قد ماتوا صغارا في القصف وأنّ الأبوين لم يتقبّلا حقيقة هذا الموت وشاخوا في الغياب وفي الغيب الذي كبر فيه الأولاد وصارت لهم حيوات عاديّة كما يحصل مع كلّ الأولاد في الدنيا، بلا “حوادث سير”( العبارة لمحمود درويش).
يرتبك الصحفي وتزداد حيرته حين يخبره الأب أنّ صديقه خالد، الميّت في عمر العاشرة، قد هاتفه وحين عرف بوجوده في البيت طلب أن يُبلّغ السلام. لم يمت الأطفال. مازالوا أحياء يرزقون في غيب ما، في ما بعد الموت الفلسطيني الذي لم يعد عقلانيّا وكسر فيه الاحتلال كلّ الحدود. حتّى أنّه لا يُقاوم و لا عزاء منه إلاّ في الجنوح إلى الجنون، وحده الجنون يسمح بالبرء والتعافي من فقدان الأبناء وانقطاع نهر السلالة المفترض أن يتواصل سلسا ومعتادا كما في “ بقيّة العالم”.
في ما نحسبه عالما واهما يصنع الأبوان حقيقة أخرى تربكنا وتضعنا أمام الأسئلة الكبرى: من يشفي الفلسطيني في عزلته الأخيرة؟ ما حاجته إلى المقدّس الذي أدماه هو وأخيه العدوّ( والعبارة أيضا لدرويش)؛ الأخُ العدوُّ يُسمّيها أرضا موعودة والفلسطيني يُسميّها أرضا مقدّسة؟ من يحسم هذه المُعضلة؟
بذكاء ورهافة نادرين وفي كسْر لكلّ أفق سرديّ منتظر ومتوقّع، تضع مها الحاج بطليها، في ما بعد ما، في غيب ما، في غياهب نفسيهما، وكما قد تفعل الآلهة تبرءهما وتجعلهما في نشأة أخرى فيشبّه لهما أنّ أبناءهما ما قصفوهم وما أماتوهم، بل هم أحياء يرزقون، هناك، في حين أنّه هنا، على هذه الأرض تموت أوهام وحقائق، تموت انسانيّة، ولا يبقى سوى هذا البيت الفلسطيني المُضيء في ليل العالم..
في مكتبة «الصحافة اليوم»: كتاب tunisiables نبش في أحوال التونسي وتقلباته لشكري الباصومي : حياتنا فقيرة قيميّا وحضاريّا وثقافيّا
في الصفحة 11 من كتابه “ tunisiables نبش في أحوال التونسي وتقلّباته” الصادر حديثا عن دار …