2024-12-15

البيئة بوابة التقدم : بين الوعي الشعبي والسياسات الوطنية

تُعد البيئة النظيفة الركيزة الأساسية التي تقوم عليها المجتمعات المزدهرة، فهي ليست مجرد عامل جمالي أو صحي بل أداة تقيس مدى تحضر الدول وتطورها. في البلدان التي تحترم البيئة وتُوليها أهمية قصوى، يظهر تأثير ذلك جليًا في جودة الحياة، حيث يعيش المواطنون في ظروف صحية مريحة، تُمكنهم من الإبداع والابتكار والمشاركة الفاعلة في التنمية.أما في البلدان النامية، فتُمثل البيئة تحديًا مركبًا، إذ تعكس التحديات البيئية ضعف الوعي المجتمعي أحيانًا، أو غياب الإرادة السياسية لتحقيق تغيير جذري في سياسات الإدارة البيئية.
من هذا المنطلق، تبرز تونس كمثال لدولة تعاني من مشكلات بيئية مزمنة، مثل التلوث الناجم عن الإلقاء العشوائي للفضلات، وانتشار الأتربة ومخلفات البناء، فضلاً عن الانتهاكات المتكررة للفضاء العام. وقد أشار رئيس الجمهورية قيس سعيّد، في أكثر من مناسبة، إلى خطورة الوضع البيئي في تونس. ففي لقائه الأخير مع السيد حبيب عبيد، وزير البيئة، عبّر عن قلقه العميق من التدهور البيئي الحاصل، مشددًا على ضرورة التحرك الفوري لإنقاذ المناطق المتضررة مثل صفاقس، قابس، وقفصة، التي تعاني ليس فقط من تلوث يهدد جمال الطبيعة، بل من تأثيرات خطيرة على صحة المواطنين.
ويرى قيس سعيّد أن معالجة الأزمة البيئية لا تقتصر على تطبيق القوانين فقط، بل يجب أن تكون هناك «مصالحة بين المواطن وفضائه العام». وهو بذلك يشير إلى بُعد أعمق يتجاوز التدابير التقليدية نحو تفعيل الشعور بالانتماء الوطني. فعندما يشعر المواطن بأنه جزء من هذا الفضاء، وأنه «مالك على الشياع» كما عبّر الرئيس، فإنه يندفع لحمايته. وقد تجلى هذا الانتماء في حملات التنظيف الشعبية التي شهدتها تونس عقب ثورة 2010، حيث اندفع المواطنون، بما في ذلك الأطفال، لتنظيف شوارعهم ومؤسساتهم، في لحظة استثنائية استعادوا فيها شعورهم بالمسؤولية المشتركة تجاه وطنهم.
ولكن هذا الزخم الإيجابي سرعان ما تراجع بسبب ما وصفه الرئيس بـ«قوى الردة» التي عملت على إفشال هذه المصالحة التاريخية بين المواطن والبيئة. والحقيقة اليوم، ان تونس تعاني من ضعف في الأداء المؤسساتي رغم وجود العديد من الهيئات المكلّفة بحماية البيئة، والتي خُصصت لها ميزانيات ضخمة. اذ المشكلة لا تكمن في قلة الموارد، بل في سوء استخدامها وعدم تحقيق أثر ملموس في الواقع.
إن تجاوز هذه الأزمات يتطلب استراتيجية شاملة تتكامل فيها الجهود الحكومية مع المبادرات الشعبية. ويجب أن تُعطى الأولوية لمشاريع مبتكرة، مثل استخراج الطاقة من النفايات، وهي تقنية أشار إليها الرئيس كحل عملي للتقليل من التلوث مع الاستفادة الاقتصادية من المخلفات. كما ينبغي تعزيز الوعي البيئي من خلال حملات تعليمية وإعلامية تُشرك المواطنين في حماية بيئتهم. فالمواطن الذي يشعر بالانتماء الحقيقي لوطنه سيكون أول المدافعين عن نظافته وجماله.
في الوقت ذاته، يجب أن تُراجع الدولة هيكلية مؤسساتها البيئية لتضمن كفاءتها وشفافيتها. فكما قال الرئيس «الحكمة ليست في تعدد المؤسسات بل في نجاعتها» مما يعني أن تكرار الهيئات ذات الاختصاص المتشابه يؤدي فقط إلى هدر المال العام دون تحقيق النتائج المطلوبة.
وإذا ما قارنّا الوضع البيئي في تونس بالدول المتقدمة، نجد أن الفرق يكمن في الإدارة والوعي المجتمعي. ففي الدول النظيفة، يُعتبر الحفاظ على البيئة جزءًا من الثقافة اليومية للمواطن، حيث يلتزم الجميع بقوانين صارمة، ولكن أيضًا بممارسات طوعية تنبع من إحساسهم بالمسؤولية. البيئة النظيفة هناك ليست مجرد رمز للرفاهية، بل شرط أساسي لجذب الاستثمارات وتعزيز السياحة، وضمان صحة الأفراد مما يساهم في استقرار المجتمعات ونموها.
وتونس رغم التحديات التي تواجهها تمتلك فرصة لإحداث تغيير جذري إذا ما وُضعت البيئة في قلب السياسات الوطنية، مع التركيز على تعزيز الانتماء الشعبي. فالبيئة ليست رفاهية يمكن تأجيلها، بل هي قضية جوهرية تمس استقرار البلاد وقدرتها على تحقيق التنمية المستدامة. إن المصالحة بين المواطن وبيئته ليست مجرد شعار، بل هي الطريق الوحيدة نحو بناء وطن صحي، جميل ومستدام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

بكل هدوء : من جمعيات التعاون الاقتصادي إلى الشركات الأهلية

في خضم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تشهدها تونس والعالم، يتبنى رئيس الجمهورية قيس س…