2024-12-13

بكل هدوء : من جمعيات التعاون الاقتصادي إلى الشركات الأهلية

في خضم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تشهدها تونس والعالم، يتبنى رئيس الجمهورية قيس سعيّد شعارات تُذكّر بأهمية العدل والإنصاف كركيزة أساسية لتحقيق الاستقرار الاجتماعي.

مستعينًا بتجربة النقابي التونسي محمد علي الحامي رائد العمل النقابي في البلاد العربية والإفريقية يحاول الرئيس سعيّد إحياء روح النضال العمالي التي سادت أوائل القرن العشرين، عندما كانت الطبقة العاملة تخوض معاركها ضد استغلال الرأسمالية الكولونيالية وتعمل على تحسين ظروف العيش من خلال جمعيات التعاون الاقتصادي. غير أن استذكار هذه التجربة يحمل بين طياته تحديًا كبيرًا يتمثل في مدى إمكانية إعادة إحياء مثل هذه المبادرات في عالم اليوم، الذي يشهد تغيرات جذرية في بنية الاقتصاد والعمل.

في أوائل القرن الماضي كانت النقابات والحركات العمالية أداة مقاومة فعالة ضد الاستعمار والرأسمالية الناشئة. وكانت الطبقة العاملة حينها قوة محورية في الاقتصاد حيث تمثل غالبية القوى المنتجة في الزراعة والصناعة. ومع تزايد التفاوت الاجتماعي وارتفاع تكاليف المعيشة، برزت جمعيات التعاون الاقتصادي كآلية لتعزيز التضامن بين العمال ومقاومة الاستغلال الاقتصادي. لكن تلك التجربة واجهت عقبات كبيرة منها هيمنة الكارتلات وقوى الاستعمار التي سعت إلى إجهاض أي حركة تُهدد مصالحها، وهو ما أدى إلى فشل هذه الجمعيات رغم روحها التقدمية.

أما اليوم، فالوضع مختلف تمامًا. لقد أفرزت الرأسمالية المتوحشة تحولات جذرية في بنية الاقتصاد العالمي. لم تعد الطبقة العاملة التقليدية (العمال اليدويون والصناعيون) القوة الرئيسية في سوق الشغل، بل أصبحت العمالة أكثر تشتتًا مع ظهور مهن جديدة ومستحدثة في قطاع الخدمات والاقتصاد الرقمي. وتزايدت أعداد البشرية، في حين تراجعت قدرة الأنظمة الاقتصادية على تلبية احتياجات الجميع، خاصة مع تصاعد التفاوت الاجتماعي والتركز الكبير للثروات. في هذا السياق، أصبحت النقابات أقل تأثيرًا، وفقدت مفاهيم التضامن والنضال الجماعي زخمها أمام الفردية التي فرضتها ثقافة السوق والعولمة.

في ظل هذه التحولات يطرح رئيس الدولة مبادرة الشركات الأهلية كبديل عصري يعيد الروح إلى مفاهيم التعاون والإنصاف. وهو طرح يهدف إلى إشراك المواطنين بشكل مباشر في خلق القيمة الاقتصادية عبر نماذج تعاونية، تُدار بأسلوب يضمن توزيعًا أكثر عدالة للثروة. لكن نجاح هذه المبادرة يواجه تحديات جسيمة. فمن جهة، هناك الصعوبات الاقتصادية التي تعاني منها تونس، مثل ارتفاع معدلات البطالة والتضخم وضعف الموارد. ومن جهة أخرى، تواجه الشركات الأهلية خطر الوقوع في نفس العقبات التي واجهت جمعيات التعاون الاقتصادي سابقًا، من تسلط اللوبيات الاقتصادية إلى عدم الاستقرار السياسي وضعف الثقافة المؤسسية.

وعلى الصعيد العالمي، يبدو أن المناخ الاقتصادي لا يخدم هذا النوع من المشاريع بسهولة. ففي عالم تسوده الشركات العابرة للقارات والأسواق المالية، يُعد إنشاء نماذج اقتصادية محلية مستدامة تحديًا كبيرًا. غير أن التحولات الحديثة، مثل الاهتمام المتزايد بالاقتصاد الاجتماعي والتضامني، قد تفتح آفاقًا لهذه المبادرة إذا ما تمت مرافقتها بتشريعات داعمة وتمويلات مستدامة.

ولعله لذلك أكد رئيس الجمهورية على ضرورة تبسيط الإجراءات أمام الشباب على وجه الخصوص لبعث شركات أهلية ومرافقتهم، حتى لا يفشل هذا الشكل الجديد من الشركات التي ـ حسب رأيه ـ لن تعود بالنفع على المساهمين فيها فحسب بل على الوطن كله.

في الختام يبقى الطرح التونسي الذي يعيد إحياء قيم التضامن والتعاون بين المواطنين واقعيًا إلى حد كبير من حيث الفكرة، لكنه يواجه تعقيدات شديدة على مستوى التطبيق. ومع ذلك فإن إعادة الاعتبار للعمل الجماعي قد تكون أحد المفاتيح القليلة المتاحة لتجاوز الأزمات الاقتصادية الراهنة، خاصة إذا ما أُخذت الدروس من تجارب الماضي وتم تسخير التكنولوجيا الحديثة لتعزيز الإنتاجية وضمان استمرارية هذه المشاريع في مواجهة التحديات العالمية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

البيئة بوابة التقدم : بين الوعي الشعبي والسياسات الوطنية

تُعد البيئة النظيفة الركيزة الأساسية التي تقوم عليها المجتمعات المزدهرة، فهي ليست مجرد عام…