في الشأن التربوي مكانة المدرّس هي أساس العملية التعليمية
تفاعلا مع فاجعة انتحار المدرس الأستاذ الجلولي – رحمه الله – مضرما النار في جسده بعد تعرضه لتنمر من طرف مجموعة من تلاميذه في المدرسة وخارجها حسب الروايات المتطابقة حول الحادثة ، تطرح هذه النهاية الأليمة وغيرها من الاعتداءات على المدرسين ، وإن كانت نادرة ، تساؤلات مهمة حول تهديدها لمكانة المدرّس وهيبته في منظومتنا التربوية اليوم، وحول ظاهرة تطاول بعض التلاميذ على مدرسيهم، وحول دور العائلة ، وحول المحيط المجتمعي للمدرسة ومدى دعمه للدور الذي ينتظر أن تلعبه المدرسة في تكوين الناشئة وتجذيرهم في قيمهم الأصيلة وإعدادهم لتحمل مسؤولية بلادهم في المستقبل .
تعتبر مثل هذه الحادثة سابقة خطيرة في تاريخ التعليم التونسي، لا يجب أن تمر مرور الكرام – وإن كانت حادثة معزولة – لأنها تجاوزت كل الحدود المسموح بها في علاقة التلاميذ بمدرّسيهم. وبالتالي هددت وتدا من أوتاد العملية التعليمية التعلَّمية ألا وهو المدرّس . أسميه كذلك لأن المدرّس هو ضلع أساسي من أضلاع المثلث البيداغوجي ( معرفة، ومدرّس، ومتعلّم ) لا تستقيم بدونه العملية التعليمية التعلّمية، ولأنه يتميز عموما بصفات الوتد الذي يثبّت الخيمة، والذي بدونه لا تصمد أمام العوامل الخارجية التي تهدد ثباتها مثل الرياح والعواصف . كما هو الأمر بالنسبة للمدرّس الضامن لثبات خيمة التعليم والتعلم جامعة كل المتعلمين تحتها بالتعاون مع بقية الفاعلين، وبدعم من القوانين المنظمة للعملية التعليمية، في ظل تصدّيه لأي صعوبات تواجههم إن كانت تعليمية أو تربوية ، من أجل رفع أدائهم التعليمي.
استعملت تلك التشبيهلت والاستعارات لأؤكد خطورة الموقف على اشتغال المدرسة ، وحتى لا يتكرر ، إذ لا معنى لمدرسة لا يقدر فيها المدرس التقدير التام ، ولا يحترم فيها استئناسا بقولة أحمد شوقي « كاد المعلم أن يكون رسولا». فهل يصبح للتعليم معنى عندما يعتمد بعض التلاميذ الفضاء الافتراضي للتهكم على مدرّسهم بعد أن تنمروا عليه؟ وهل يكون له معنى عندما لا يجد التعليم من الولي التواصل والدعم والإسناد؟ وهل يمكن أن نتحدث عن تعاون بين العائلة والمدرسة من أجل الناشئة عندما يلتجئ الولي كما في حالتنا هذه مباشرة إلى القضاء ويقدم شكوى ضد المدرّس دون أن يتحرى تفاصيل الواقعة ، ودون محاولة التواصل مع المدرّس والمدرسة لإيجاد حلول للمشكلة في علاقة بالمجال الذي حدثت فيه وهو التربية ؟ إن هذا لا يدل سوى على أن العلاقة بين الولي والمدرسة ليست على ما يرام .
التدريس مهمة نبيلة
يعرّف التعليم بمنظور فلسفي على أنه نشاط يقوم به المدرس يجعل التلميذ يتعلّم، بتبليغ معارف وتنمية مهارات وإكساب اتجاهات ووسائل عمل، وبتكوين شخصية المتعلم وتنشئته اجتماعيا وتلبية حاجياته وتنمية قدراته مما يطور خبرته في المجال المدرسي . ويتطلب ذلك من المدرس بذل جهد كبير في انتقاء المواد التعليمية والمهارات وهيكلة المعارف والمعلومات التي يقدمها للتلميذ حتى يتمكن منها المتعلم. كما يتطلب منه استنباط الوضعيات التعلمية التي تساعد التلميذ على التعلّم خلال الزمن المدرسي المخصّص لذلك، مع اختيار أسلوب الشرح والتحليل الذي يتماشى مع قدرات تلاميذه ثم تقييم مدى تقدم المتعلم في التمكن من المضامين التعليمية ونسبة اكتسابها . ويشارك المدرس في تكوين التلميذ الإنسان وتنظيم خبراته الذاتية وإكسابه القيم والفضائل السائدة في المجتمع الذي ينتظر أن يندمج فيه ويتحمل المسؤولية في المستقبل. وعموما يشارك المدرس في تعليم التلميذ باعتباره الطرف الأساسي في العملية التربوية ومصدرها الموثوق كما يقول الباحثون في علوم التربية . فهل يستحق من يقوم بهذه المهمة الصعبة والنبيلة التعامل معه كما فعل بعض التلاميذ مع المدرّس في المهدية ؟ وهل يستحق من يعمل على مدّ المجتمع ببذرة صالحة تساهم في تنميته ورقيه مثل هذا التصرف؟ ألا يستحق المدرس كل الاحترام والتبجيل من طرف كل فئات المجتمع وخاصة من تلاميذه وأوليائهم ؟ لذلك نحن نحتاج إلى استراتيجية واضحة تعيد للمدرّس مكانته ومنزلته في المنظومة التربوية .
ما العمل ؟
إن هذا السلوك الغريب غير الأخلاقي من فئة من التلاميذ تجاه مدرّسهم ، في صورة تكراره سيساهم في الحط من وظيفة التعليم وتدني منزلة المعلم ودوره في العملية التعليمية التعلّمية ، مما سيؤثر سلبا على أداء المدرسين وعلى أداء خريجي المدرسة. لذلك ننتظر أن تبحث الإدارة عن الأسباب التي جعلت التعامل مع المدرس يصل إلى هذا المستوى المتدني في منظومتنا التربوية، وتعمل على دراستها ثم معالجتها . وأن يكون للإدارة تدخل حازم وحلول فعالة حتى لا تتكرر مثل تلك الحالات السلوكية ، وبالتوازي تضع استراتيجيات ناجعة لمعالجة مشكلة سلوك التلاميذ غير الحضاري وأحيانا المتهور والعنيف تجاه المدرسين والتصدي لأي تطاول أو تنمر على المدرسين مهما كان مأتاه وحمايتهم من كل التجاوزات.
ويكون من ضمن تلك الاستراتيجيات وضع برامج تكوين للمدرسين في الجانب العلائقي تساعدهم على التعامل مع ذلك النوع من السلوك بكفاءة واقتدار قبل وقوعه إن أمكن وبعد وقوعه إن حدث. ومراجعة القوانين المنظمة للحياة المدرسية وخاصة ما يتعلق منها بالتأديب المدرسي . والعمل على تأطير الأولياء وربط علاقة شراكة معهم تجعلهم يقتنعون بأنهم شركاء وفاعلون في المنظومة التربوية . مع العمل على منع اصطحاب الهواتف الجوالة في المدرسة وبالتالي منع تصوير ما يجري في القسم أو في ساحة المدرسة ونشره في وسائل التواصل الاجتماعي قصد الإيذاء أو السخرية. واعتبار ذلك خطأ شنيعا يستوجب أقصى العقوبات. وأخيرا دعوة وسائل الإعلام المختلفة إلى تثمين دور المدرّسين وعملهم والتشهير بالسلوكات المشينة التي يأتيها بعض التلاميذ تجاه مدرّسيهم وكذلك الفاعلين في المدرسة .
في الشأن التربوي : نجاعة التدريس للتصدّي للدروس الخصوصية
انشغل الرأي العام في تونس في الفترة الأخيرة بظاهرة الدروس الخصوصية وكيفية التصدي لها . وكن…