2024-12-08

بلغ السيل الزبى.. العنف المدرسي خطر جاثم يهدّد المجتمع

لم نكد نطوي صفحة واقعة انتحار أستاذ التربية الاسلامية بالمدرسة الإعدادية بالشابة من ولاية المهدية حتى صدمنا بخبر ثان لا يقل خطورة جدّت تفاصيله بمعهد سبيبة من ولاية القصرين وتمثّل في إقدام تلميذة على تعنيف أستاذة عنفا شديدا والانصراف بعد الواقعة وكأن شيئا لم يكن..!
وقد فتحت النيابة العمومية بالمهدية بحثا تحقيقيا في ملابسات وفاة الأستاذ متأثّرا بحروقه التي أصيب بها بعد إضرام النار في جسده يوم 27 نوفمبر المنقضي على خلفية حملة تنمّر فظيعة تمت للأسف على أيدي أبنائه التلاميذ تحت أنظار الكبار.
ولم يختلف ردّ الفعل في القصرين كثيرا يوم 5 ديسمبر الجاري، أي في أقل من أسبوع مما حصل في المهدية، حيث لا حديث في الجهة إلا عن الأستاذة التي منعت تلميذة من استعمال الهاتف في قاعة الدرس ومصادرته منها، فلاحقتها التلميذة وتهجمّت عليها في الساحة واعتدت عليها بالعنف وطرحتها أرضا واسترجعت هاتفها، ووفق بعض الروايات فإن ابنتنا التلميذة تتقن فنون الرياضات القتالية.
وكما هو معلوم، فالواقعتان ليستا معزولتين ونحن لا نتحدث عن ظاهرة طارئة ومستجدة وظرفية وإنما عن «غول» كما يقال، بات لا يهدّد المدرسة فقط ولكن يتربّص بالمجتمع وينذر بما هو أسوأ مما يتصوره البعض.
وقد سجلنا في هذا السياق عديد الحوادث منذ انطلاق السنة الدراسية الحالية في مختلف أرجاء الوطن وهي حوادث متكررة عشنا ما يشبهها خلال السنوات الماضية لكن منسوبها بدأ على ما يبدو في ارتفاع خطير وأشكال أكثر خطورة تفرض على الجميع الانتباه والانتقال من مجرد رد الفعل الى الاستباق والوقاية والردع قبل ان يبلغ السيل الزبى نهائيا.
لقد تواترت ردود الأفعال بعد الواقعة الأولى والثانية ولم تتأخر الجهات الأمنية والقضائية في القيام بدورها وسارعت النقابات في الاحتجاج والتعبير عن الغضب بأشكال مختلفة وكذلك الأولياء وحتى التلاميذ في الوقت الذي خفت فيه للأسف صوت الجهات الرسمية ولم يرتق رد فعل سلطة الإشراف المباشرة (وزارة التربية) والمجاورة (الأسرة والطفولة والشباب..) إلى مستوى خطورة ما حدث ودلالاته وارتداداته، ونحن لا نتحدث هنا عن المجهودات التي بذلها المسؤولون الجهويون وكثير من الأطراف المعنية بالعملية التربوية بقدر ما نتحدث عن الدولة وعن مقاربتها في الدفاع عن المصعد الاجتماعي.
وهنا نقول بكل لطف ومسؤولية أيضا، ما الذي كان يمنع سلطة الاشراف من الحضور الى الشابة مثلا والمشاركة في جنازة المربي ومؤازرة عائلته وتقديم رسائل طمأنة للأسرة التربوية وللعائلات التونسية ولابنائنا التلاميذ فما حصل هو في نهاية المطاف نتيجة خلل في المجتمع يتحمل الجميع مسؤوليته.
نفس الملاحظة نسوقها للوزارة المعنية بالأسرة والمرأة والطفولة والوزارة المعنية بالشباب والرياضة وحتى وزارة الثقافة وغيرها، فأطراف الواقعة هم في النهاية من منظوري مثل هذه الوزارات وما حصل كان نتيجة خلل أيضا كي لا نقول فشل في الاحاطة بالناشئة ورد الاعتبار للمربي وتحفيز العائلة ومساعدتها في القيام بدورها وتنقية الشارع من الشوائب وحسن التعامل مع الفضاء الافتراضي وغيره من المطبات التي أوقعتنا في المحظور.
إن أخطر ما نسجله وسجلناه سابقا في علاقة بهذا العنف المستشري في المدرسة وفي العديد من المظاهر السلبية في مجتمعنا هو التطبيع أجل التطبيع والاكتفاء بالانفعال خلال يوم أو يومين وطرح كل الملفات على الطاولة ثم إعادتها الى الأدراج في انتظار الواقعة القادمة..!
إن الأمر لا يتعلق أيضا في تقديرنا بالتشريعات ولا بالهياكل والمؤسسات فلدينا ترسانة من القوانين نأمل التقيّد بها والاجتهاد في حسن تطبيقها ولدينا تقاليد وهيئات وآليات تسمح بتحصين المجتمع وبإيجاد الخطط والاستراتيجيات الكفيلة بالوقاية والعلاج حتى لا نصل الى الاستئصال والبتر.
من هذا المنطلق لا مناص من الاقتناع بأن أزمة المدرسة وأزمة التربية هي في المحصّلة أزمة مجتمع، وهي مرتبطة بالاوضاع الاقتصادية والاجتماعية من جهة ومن جهة ثانية برؤيتنا لدور المدرسة في المجتمع والمراهنة عليها كما كان الامر في دوله الاستقلال حتى تكون مصعدا اجتماعيا نكوّن به الناشئة ونصنع به رجال الدولة ونضمن به بالتالي حقوق الأجيال القادمة.
ان الاجابة الرسمية والنقابية والشعبية والمدنية والسياسية ان جاز القول على ما حصل في مدرسة المهدية ومعهد القصرين وغيرها من مؤسساتنا التربوية في الجهات لا يجب ان تقف عند حدود الشجب والاستنكار والقاء التهم على هذا الطرف او ذاك وخصوصا الالتجاء الى الحلول المتسرعة الاعتباطية الانفعالية التي لا تجدي نفعا من قبيل الحديث عن منع اصطحاب التلاميذ لهواتفهم الجوالة الذكية وكأن الهواتف الجوالة «الغبية» لا يمكن ان تكون مصدرا للاحتقان والعنف.
كذلك الأمر بالنسبة الى النقابات، فقد حان الوقت لتغيير أساليب العمل والنضال وتحديثها فالاحتجاج عبر تعطيل الدروس مثلا وحرمان التلاميذ من حيز زمني قد يكون صالحا للحوار بين المربي وأبنائه للوقوف على خطر ما حصل أفضل بكثير من العقاب بالغضب والقطيعة..
وبالنسبة الى الأولياء والعائلات بشكل عام ثمّة الكثير مما يجب فعله، صحيح ان التربية هي من مهام المدرسة التي تعلّم وتربّي، لكنها ليست حصرية او حكرا على هذه المؤسسة الرسمية بل ان التربية بمفهومها الشامل وظيفة عائلية ومجتمعية وثقافية وحضارية تعني الجميع ولا يتحمل وزرها طرف واحد.
أما في ما يتعلق بسلطة الاشراف، فلنكن على بيّنة من أن المسؤولية جسيمة وخطر العنف المدرسي جاثم ينخر جسم المؤسسات التربوية ولا يمكن اليوم ان نختفي وراء مشروع المجلس الاعلى للتربية الذي لم ير النور بعد فهو لن يكون العصا السحرية التي نوقف بها النزيف طالما لم تكن الأطر التي يتحرك فيها التلميذ ونقصد بها العائلة والشارع والفضاء العام نقية ومؤهلة للتربية، علاوه على التلكؤ والتردّد في القيام بإصلاحات عاجلة من قبيل رد الاعتبار لوظيفة التفقد ودور القيّم داخل الساحة وربط النوادي والانشطة الثقافية المدرسية بأهداف كبرى تربوية بعيدا عن المناسباتية وعن التهريج أحيانا دون ان ننسى معالجة معضلة الدروس الخصوصية التي والحق يقال تسيء لصورة المربي وصورة المؤسسة التربوية بشكل عام لانها تظهر صورة عجز المربي عن تأمين درسه داخل قاعة الدرس وضرورة استكماله أحيانا في «قاراج» الى جانب توفير فرصة تطاول التلميذ على «سيدو» عندما تتحول العلاقة بينهما الى علاقة مادية فـ«الابن» هنا هو الذي يعطي المال لـ«أبيه».
ان شروط النجاح في الإنقاذ متوفرة في تقديرنا ويكفي ان نعود الى مشهدية مناظراتنا وامتحاناتنا الوطنية وخصوصا الباكالوريا وكذلك ظفر بعض أبنائنا بفرص الدراسة بالخارج لندرك ان المجتمع التونسي ما يزال يراهن على التربية وان المدرسة ما تزال مشروع مصعد اجتماعي وعلى الجميع تحمل مسؤولياتهم قبل فوات الأوان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

في الذكرى 76 لصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.. بأيّ طعم تحتفي الإنسانية اليوم بـ«الحقوق والحرّيات»..؟

تحيي المجموعة الدولية اليوم 10 ديسمبر 2024 الذكرى 76 لصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان س…