وضعت الاطروحات السياسية الحديثة نظريات ومفاهيم جديدة ترتب الدول وتصنفها لا على أساس قوتها أو هشاشتها الاقتصادية ولا على أساس اشعاعها في محيطها الاقليمي والدولي وإنما على أسس أخرى «اخلاقية بالاساس» في علاقة مباشرة بسلوك الدولة تجاه مواطنيها ومن هذه التصنيفات نجد ما يسمى «بالدولة القوية» و«الدولة الذكية» و«دولة الرفاه» و«الدولة الضعيفة» و«الدولة المنهارة» و«الدولة الفاشلة» و«الدولة السائرة على طريق الفشل» و«دولة الافكار».. وقد وضعت هذه الاطروحات ـ كما أشرنا ـ معايير دقيقة يتم من خلالها تصنيف الدول وترتيبها…

فأين نحن من هذه الترتيبات…؟ وأين نضع «دولة المرحلة»…؟ وكيف نرى انفسنا في مرآة هذه التصنيفات…؟ وهي وإن بدت لنا عشوائية الا أنها تضعنا ـ في الأخير ـ أمام سؤال مهم يتعلق بطبيعة هذه المرحلة التي يقودها الرئيس قيس سعيد وله صلاحيات دستورية واسعة تؤهله لادارتها بارتياح ولوضع سياسات انقاذ تبدو ممكنة رغم ثقل ما راكمته المرحلة وما ورثته من «خراب معمّم» لم يسلم منه قطاع واحد…

لقد انتقلت تونس ـ في الواقع ـ من «دولة فاشلة» الى «دولة الأفكار» وكان بامكان هذا الفشل ان يرافقها لو استمرت «دولة العشرية» ما بعد الثورة وما لم تتم الاطاحة بها في جويلية 2021..

«فدولة العشرية» التي حكمها الاخوان وفشلوا فشلا ذريعا في ادارتها هي العنوان الابرز «للدولة الفاشلة» التي تقود شعوبها تجاه مآلات غامضة ومجهولة وهي «الدولة» التي تتحول فيها المؤسسات المرجعية الى هياكل فارغة والتي يتم خلالها ـ بوعي أو عن جهل ـ ضرب القطاعات الحيوية وتخريبها واتلافها على غرار الصحة والنقل والتعليم وبالتالي هدم كل ما يجعل من الدولة دولة قوية ومهابة وذلك بتفكيك عناصر هذه القوّة ومن ثمة اضعاف حيويتها بما يعطل الخدمات التي تقدمها «الدولة كواجب تجاه مواطنيها»…

ومن العلامات القوية «للدولة الفاشلة» عدم اعترافها بفشلها وإنكارها التام للخراب الذي ضرب مؤسساتها وأهلك كل القطاعات الحيوية من صناعة وتجارة وفلاحة وتعليم وصحة ونقل وإن اعترفت فإنها تعلق فشلها على شماعة «نظام الحكم» ما قبل الثورة على أساس أنه «أصل الخراب»… والواقع الذي يدركه كل التونسيين بما في ذلك «حكام العشرية» أن «دولة الاخوان» قد عملت حثيثا وبقوة على ضرب كل مكاسب الدولة الوطنية من أجل ارساء مشروع «دولة الخلافة» التي نادى بها «الخليفة السادس» في لحظة «انتصار واهم» تبدّى له داخل ذاك الفراغ السحيق الذي عرفته تونس زمن الاخوان…

من «دولة الفشل والإنكار» مرّت تونس ـ بعد عسر ـ وبعد صعوبات اجتماعية واقتصادية وبعد انتقال سياسي بطيء وصعب مرّت الى «دولة الإقرار والافكار» وهي دولة المرحلة التي يقودها الرئيس قيس سعيد تحت عناوين مختلفة ابرزها مقاومة الفساد وتطهير البلاد من المتآمرين عليها وكلّها عناوين تجتمع تحت شعار مركزي هو «البناء والتشييد»… فما معنى «دولة الإقرار والأفكار» وما هي أبرز ملامحها…؟

«دولة الإقرار» هي الدولة التي لا تُخفي أعطالها ولا تخجل من الاقرار بحجم الخراب الذي ضرب قطاعاتها الحيوية ولا تخشى من الاعلان عن عدد العاطلين والمعطلين من ابنائها… دولة الإقرار هي الدولة القادرة على الاجابة عن أسئلة مواطنيها… أسئلة الصحة والتعليم والنقل والهجرة غير النظامية… دولة الاقرار هي التي لا تعلق الخيبات على شمّاعات مضللة وإنما هي تقرّ بحجم الخراب ولا تنكره وتعلن في نفس الوقت عن عزمها القويّ للانقاذ ولاصلاح ما تداعى وفق رؤية عقلانية تراعي امكانيات الدولة المالية… ودولة الاقرار هي في الأخير الدولة التي تصنع مجدها بعزائم مواطنيها وبارادة حكّامها وعبر خطاب مكاشفة يعرّي كل الاعطال الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ثم يمضي عميقا على طريق الاصلاح والانقاذ… و«دولة الاقرار» هي الدولة القادرة على ابتكار «أفكار البناء الكبرى» للانتقال من حال الى حال لذلك قلنا ان تونس ـ ومن باب الواقع لا من باب المجاز ـ هي «دولة الاقرار والافكار» بحيث لا ينكر رئيسها قيس سعيد حجم الخراب الذي ضرب كل القطاعات الحيوية وقد تحوّلت الى أكداس من الخردة على غرار النقل والصحة والتعليم ولا ينكر أرقام العاطلين من أبناء تونس ولا عدد المغادرين من كفاءاتها… هو لا ينكر كل هذا وغيره بل يقرّه وفي نفس الوقت وبعزيمة شخصية تستمد قوتها من الاجماع الشعبي يعلن عن رؤيته في الاصلاح وفي انقاذ ما تداعى بشكل استعجالي…

وبأكثر دقّة فإن الرئيس قيس سعيد لا يُخفي على مواطنيه «أعطال الدولة» وإنما هو يعلنها على الملإ مع تأكيده على أن عزيمة الانقاذ والاصلاح أكبر من حمولة الخراب الذي ضرب كل القطاعات وأهلكها… لذلك قلنا أن «دولة المرحلة» هي «دولة الاقرار والافكار» والتي تخوض معركة البناء في اتجاهين مركزيين:

اتجاه أول يخوض معركة شرسة ضدّ الفساد وضدّ كل المتآمرين على السلم الاجتماعية ويتولى أمرها الأمن والقضاء التونسي واتجاه ثانٍ مركزي هو أيضا تحت عناوين اصلاح وتشييد لانقاذ ما يمكن انقاذه وخاصة في قطاعات الصحة والتعليم والنقل وبين هذا وذاك ثمّة سياسات وأفكار بين يدي الرئيس قيس سعيد الذي يدير المرحلة وقد أخذها ـ برمّتها ـ على عاتقه رغم ثقل حمولتها…

يمتدّ المنعطف السياسي الذي أطلقه الرئيس قيس سعيد في جويلية 2021 ويمضي عميقا على الأراضي التونسية وهو بصدد صنع مجده ومجد بلد كان وما يزال محاصرا بلوبيات الفساد التي نهبت ثرواته القليلة اضافة الى المتربصين به من عملاء الداخل وأعداء الخارج…

فلتكن تونس «دولة الإقرار والوضوح… ودولة الافكار الكبرى أفكار البناء والتشييد»…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

ما بين «طوفان الأقصى» و «سقوط» نظام الأسد : إفراغ المنطقة من عناصر قوّتها كان مدروسا وممنهجا..!

بعيدا عن كل أشكال الاصطفاف الاعمى مع أو ضد بشار، علينا ان ننظر الى السقوط السريع والمفاجئ …