في الشأن التربوي : نجاعة التدريس للتصدّي للدروس الخصوصية
انشغل الرأي العام في تونس في الفترة الأخيرة بظاهرة الدروس الخصوصية وكيفية التصدي لها . وكنت أكدت في مقالات سابقة حول المسألة أن استعمال الزجر وحده لن يحل المشكلة ودعوت إلى ألا تقتصر معالجة الظاهرة على النصوص القانونية الرادعة للمخالفين وإنما علينا التفكير في أسباب تفشي الدروس الخصوصية ومعالجتها .
وكان دائما من رأيي أن طريقة اشتغال المنظومة التربوية التونسية من بين أسباب ظهور الدروس الخصوصية. وسأتناول في مقالي هذا سببا واحدا ومهما وجوهريا من تلك الأسباب ويتعلق بممارسة التدريس في القسم ومدى نجاعته في الحد من وطأة انتشار الدروس الخصوصية ؟
إن إخضاع ظاهرة الدروس الخصوصية للدراسة والتحليل كفيل باكتشاف الأسباب الحقيقية وراء انتشارها ثم معالجتها . لكن ورغم ذلك فإن الملاحظين من أصحاب الخبرة في الشأن التربوي يعتقدون أن مجموعة من الآليات والمقاربات التي تشتغل وفقها المنظومة التربوية هي من أهم الأسباب وراء تضخم الظاهرة ويجب التعامل معها بحكمة .
الدروس الخصوصية : الأسباب
ومن بين تلك الأسباب حسب رأيي نذكر أولا المقاربة التنافسية التي تنبني عليها المنظومة التربوية التونسية والتي تكافئ المتميزين من المتعلمين وتفتح لهم أبواب المدارس والمعاهد النموذجية وتمكنهم من اختيار ما يرغبون فيه من مسارات تعليمية في التوجيهين المدرسي والجامعي… أما السبب الثاني فيتعلق بمنظومة التقييم القائمة على النتائج المدرسية والضوارب المميزة بين المواد وعدم اعتبار قدرات التلاميذ وميولاتهم ورغباتهم، وبالتالي تجعل التلاميذ وأولياءهم يلهثون وراء الأعداد بكل الطرق. ويتمثل السبب الثالث في عدم نجاعة التدريس لاعتماده مقاربة بيداغوجية قائمة على الحفظ والتلقين وعلى برامج مكثفة تدرس خلال زمن مدرسي ونسق تعلّمي غير مناسب.كما أنها لا تهتم بالتلاميذ المحتاجين للدعم بسبب صعوبات تعلم أو صعوبات في الفهم والاستيعاب يعانون منها. وهذا السبب جوهري في رأيي وسأتناوله بالتحليل نظرا لعلاقته بالتحصيل العلمي وبالتقييم والنتائج المدرسية ولأنه متغير يمكن الضغط عليه في وقت قصير لمعالجة الظاهرة .إضافة إلى أسباب أخرى تتفاوت أهميتها في علاقة بالظاهرة .
وكان من تبعات تلك الأسباب تضخم الدروس الخصوصية بسرعة لتنتج مدرسة موازية تعمل على تمكين التلميذ بما يشبه المنشطات في النشاط الرياضي باعتماد مقاربة تجارية بحتة تعمل بقواعد العرض والطلب والترويج مما جعل رقم معاملاتها يتطور بسرعة مذهلة في السنوات الأخيرة . بل لا نحيد على الصواب إذا قلنا أنها أصبحت ثقاقة في مجتمعنا رغم أن أول نص قانوني حاول التصدي لهذه الظاهرة كان الأمر عدد 679 لسنة 1988 أي منذ 36 سنة .
نجاعة التدريس هي الحل الجوهري
أركز هنا على مقومات التدريس الناجع القادر حسب رأيي على القضاء على نسبة كبيرة من الظاهرة. لأن التلميذ عندما يستوعب الدرس ويفهمه ويتدرب على تطبيقاته المختلفة ويكتسب المعارف والمهارات والاتجاهات المطلوبة ويوظفها بصورة صحيحة لن يجد نفسه محتاجا إلى عمل إضافي خارج المدرسة مهما كان نوعه. ولا يوفر ذلك إلا التعليم الناجع الذي يوصف بذلك لأنه ييسر التعلّم ويحقق النتائج المرتقبة من التلميذ والمدرسة والمجتمع والتي تكون ملائمة لأهداف التعليم ومراعية للظروف المحيطة بالعملية التعليمية وبالسياق الذي تحدث فيه. فما هي أسسه ؟
يؤكد الباحثون في علم التعليم أن المدرس مطالب بتنظيم عمله باتباع الخطوات التالية في درسه حتى يكون تعليمه ناجعا :
ينطلق أولا من تحديد أهداف الدرس والتصريح بها ، وتذكير تلاميذه بالمكتسبات السابقة في علاقة بالدرس الجديد، ثم ينطلق في تقديم درسه مقسما إلى مقاطع قصيرة أو خطوات صغيرة ( لأن نظرية المعالجة العرفانية للمعلومة تؤكد قصور الذاكرة الانسانية قصيرة المدى أو ما يسمى بذاكرة العمل على معالجة كمّ كبير من المعلومات الجديدة التي تأتيها من محيطها مهما كانت نسبة ذكاء الفرد ) يشفع كل مقطع منها بأسئلة تراقب مدى فهم المتعلمين للمحتوى المدرس .ويشفع أيضا بتدريب موجه خاص بها وبتمارين متنوعة تتلاءم مع مستويات تلاميذه المختلفة، وتنشط رغبتهم في التعلم حتى لا يكونوا متقبلين فحسب، مع مرافقتهم عند الإجابة ليتعلموا كيف يتعلمون .
كما يتولى المدرس الناجع تقديم المساعدة لمن يحتاجها بحيث لا ينتقل من مرحلة إلى أخرى إلا وقد تأكد من فهم جميع تلاميذه واستيعابهم لأهداف المقطع المدرس مع إصلاح ما يقعون فيه من أخطاء وتساعده في ذلك تطبيق مبدإ التغذية الراجعة في نهاية كل مقطع ثم في نهاية الدرس بعد إنهاء كل المقاطع . ولتثبيت تلك المعارف يحتاج المدرس إلى تخصيص وقت للمراجعة الأسبوعية ، والمراجعة في نهاية كل محور درّسه مع دعوة التلاميذ إلى التعبير عما استوعبوه من الدرس بلغتهم وربط ما تعلموه بالمحتويات السابقة .
على أن يحرص المدرس على مشاركة كل التلاميذ في الدرس ، وعلى تقديم تعليمات واضحة ودقيقة للمتعلمين ، وعلى أن يكون شرحه أيضا دقيقا وبأسلوب يفهمه الجميع ، وعلى طرح أسئلة سهلة قابلة للفهم مع التأكد دائما من فهم تلاميذه للأسئلة المطروحة . وتساعد هذه المقاربة التلاميذ الأبطأ في الفهم كما تتماشى مع سريعي الفهم .
إن تطبيق هذه المهمات المساعدة على نجاعة التعليم هي حتما عامل ميسّر للتعلم. وبالتالي لا يجعل المتعلمين ولا أولياءهم يلتجئون إلى الدروس الخصوصية للحصول على نتائج مدرسية متميزة بل سيغير مفهومهم للتعلم على أنه فرصة للتكوين واكتساب المهارات وليس لجمع المعارف والمعلومات فقط . لكن تنفيذ هذه المقاربة يحتاج إلى مدرسين متعددي المهارات متمكنين من المعارف ومتكونين في المجالات البيداغوجية والتربوية والتواصلية ومتدربين على تطبيقها .
في الشأن التربوي : تربية الناشئة على المهارات أحد تحدّيات المدرسة
من بين التحديات الحياتية التي تواجه المجتمع الإنساني اليوم، والتي على المدرسة رفعها في كل…