هل بدأنا نحصد ما زرعناه ومن يزرع الشوك يجني الجراح كما قال شاعرنا الخالد أبو القاسم الشابي؟ هل نصارح أنفسنا بأن نظامنا التربوي دخل غرفة الإنعاش؟
ومتى حدثت القطيعة الكبرى بين مفهوم التربية كمنظومة متكاملة ومفهوم التعليم كتكوين فقط؟ ولماذا نصاب بالصدمة في كل مرة تصفعنا واقعة مريعة تحدث في الفضاء التربوي او حتى على هامشه؟ وهل كنا ننتظر انتحار احد المربين حرقا لندرك عمق التراجيديا التي تردّينا فيها؟ ألم تحدث وقائع أخرى مؤلمة شبيهة بها ؟ ألم يتعرض بعض المربين الى العنف الشديد على ايدي بعض التلاميذ؟ ألم يقتل أحد التلاميذ زميلا له ؟ ألم يحدث اغتصاب وتحرش في الفضاء المدرسي؟.
أسئلة كثيرة تصفعنا في كل مرة نستيقظ على واقعة عنيفة تحدث داخل اسوار المؤسسات التعليمية ولكننا سرعان ما نفرّ منها كمن يهرب من مرآته خوفا من رؤية الحقيقة ونعود الى شؤوننا اليومية حتى يحدث أمر آخر وهكذا ندور في حلقة مفرغة عنوانها الأبرز انهيار منظومتنا التربوية وتدهور قيمي يكاد يكون شاملا في المجتمع التونسي. بدأ بانحسار السلوك الحضاري في الفضاء العام في بدايات الألفية الجديدة ثم تعمق في مرحلة ما بعد الثورة متغذيا من التدهور العام والانفلات الحاصل في المجتمع ثم جاءت ثورة الانفوميديا والغزو السريع لحياتنا من قبل مواقع التواصل الاجتماعي ليزيد الطين بلّة كما يقال. وقطعا ساهمت الإشكاليات الاقتصادية في تعميق الأزمة.
والأكيد أننا جميعا وبأقدار مختلفة مذهولون أمام ما يحدث وصدمتنا كبيرة ونحن نتابع تفاصيل إقدام مربّ فاضل يحمل الكثير من معاني اسمه على الانتحار حرقا بعد تعرضه لحملة تنمر من قبل «أبنائه» التلاميذ.
ولنا جميعا ان نستشعر حجم الغضب المكتوم جراء القهر والظلم والأذى النفسي الذي تعرض له هذا المربي حتى اقدم على وضع حد لحياته.
وكأنه يشير لنا بهذه النهاية التراجيدية الى عمق الوحشية التي صار عليها مجتمعنا وهو يمعن في ماديته ويغرق في مختلف أنواع الشرور.
وهنا علينا أن ندرك أن تدمير المجتمعات يبدأ من التعليم والتربية ونهضتها تقوم أساسا على هذه الركائز وبالتالي فإن الخراب الممنهج الذي عاشته بلادنا انطلق من تدمير المنظومة التربوية وتدهور القيم الاجتماعية وسط حالة العطالة العامة التي عشناها منذ ما يربو عن عقدين من الزمن.
ولأن النسق التربوي والتعليمي الذي تم إرساؤه في بلادنا يعد إحدى مفاخر الدولة الوطنية والعنوان الأبرز الدال عليها فإنه من الطبيعي ان توجّه اليه معاول كل الذين أرادوا تشويه الوجه الحضاري والتقدمي لتونس وأيضا كل الذين حاربوا النمط المجتمعي التونسي بكل الوسائل.
ولكن علينا الإقرار أيضا بأن تحولات كثيرة عصفت بالمجتمع التونسي في العقدين الأخيرين مع تراجع واضح لمكانة المدرسة كفضاء تربوي في المقام الأول واقتصر دورها على التعليم الذي يتأسس على التلقين دون إعمال كبير للفكر ودون تنمية للحس الفني والثقافي وانفتاح يؤسس لتمتين السلوك الحضاري والتوازن النفسي. اما بالنسبة الى الأسرة فهناك استقالة شبه تامة للأولياء من المسؤولية التربوية واقتصار تقريبا على الرعاية المادية فحسب. فالإيقاع السريع للحياة والتطور المذهل في كافة مناحيها جعل الجميع يركض خلف توفير كل ما هو مادي.
لكن الى متى يتواصل هذا النزيف؟
هل سنصمت بعد هذه الواقعة أيضا ونواصل حياتنا الطبيعية كما حدث من قبل ؟
إذا أعملنا العقل في هذه المعضلة ستكون النتيجة أننا كلّنا مسؤولون عن هذا التردي بدرجات مختلفة سواء تعلق الأمر بالمؤسسة التربوية ذاتها كبرامج تعليمية وكفاعلين فيها فالواضح ان المدرسة عجزت تماما عن تأصيل ثقافة احترام الغير في نفوس التلاميذ وفكرة القبول بالاختلاف كما انه علينا الإقرار بغياب القدوة هنا وقلة قليلة من المربين الذين مايزالون يمثلون نماذج يمكن الاقتداء بها سلوكيا واخلاقيا.
كما ان المؤسسات الثقافية هي أيضا تقع في دائرة الاتهام بعد ان تدهورت احوالها وأصبحت خارج الخدمة.
ولا ننسى الإعلام والفنون وما تقدمه من مضامين في اغلبها لا يؤسس لمحتويات تربوية سليمة ولا قيمة فيه للعلم والقيم والمعايير بل كله تأكيد على البريق المادي الزائف وتحطيم لمفهوم القدوة.
أما الشخصيات الاعتبارية التي تمثل قصص نجاح في كل المجتمعات وتشكل مرجعيات الا عندنا هي فقط نماذج للتفاهة بكل ما تعنيه الكلمة من دلالات ويكفي ان نلقي نظرة على سلوك بعضها وتصريحاته لندرك عمق الازمة. هذه الازمة التي لا يمكن اختصارها في تقاعس اسرة عن تربية ابنها بشكل جيد وتعليمه السلوك القويم. ولذلك نحن الآن في أمسّ الحاجة الى إعادة بناء الانسان التونسي كما حدث في كل المراحل المفصلية من تاريخنا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

تونس داعمة ومتضامنة دوما  مع فلسطين..!

أي سبل لمجابهة الكارثة الإنسانية في  غزة؟ وما هي التدابير اللوجستية الضرورية لإدخال المساع…