بكل هدوء : حتى يتوافق القول مع الفعل
يشهد المشهد التونسي اليوم تناقضًا بين الخطاب السياسي الذي يدعو إلى الإنجاز السريع والتنفيذ الفوري للمشاريع، والواقع الذي يعكس بطءا واضحًا في تحقيق التنمية والنهوض بالاقتصاد. هذه الهوة بين المصرّح به والمنجز فعليًا تثير تساؤلات عدة: هل العائق يكمن في كفاءة المسؤولين؟ أم أن المشكلة ترتبط بنقص الموارد والإمكانيات؟ أم أن هناك خللاً هيكليًا في منظومة التسيير بأكملها؟ هذا الغموض يجعل المواطن التونسي يعيش حالة من الحيرة والإحباط، وهو ما يتطلب تحليلاً معمقًا واقتراح حلول عملية.
ويمكن تفسير هذا التناقض بعدة أسباب وعوامل من أبرزها واستنادا الى التصريحات الرسمية هي مسالة كفاءة المسؤولين حيث يتكرر تغيير المسؤولين في تونس بوتيرة عالية، ما يشير إلى أزمة في اختيار الكفاءات أو غياب استمرارية السياسات. فعندما يتم تغيير المسؤولين بشكل مستمر، تفتقد المؤسسات إلى الاستقرار، مما يعطل المشاريع ويؤخر الإنجازات. وهنا تبرز أهمية وضع آليات صارمة لاختيار المسؤولين بناءً على الكفاءة والخبرة وليس الولاءات السياسية
العامل الثاني يتمثل في نقص الإمكانيات المادية. فالكل يدرك ان تونس تعاني من أزمة اقتصادية خانقة، ومع تراكم الديون ونقص السيولة، يصبح تنفيذ المشاريع التنموية تحديًا كبيرًا. ولكن، حتى في ظل هذه الصعوبات، يمكن استغلال الموارد المتاحة بشكل أفضل من خلال اعتماد خطط مدروسة بعيدة عن الهدر والفساد.
وثالث سبب معقول لاستمرار هذا التناقض بين المصرّح والمنجز هو وجود خلل هيكلي في منظومة التسيير اذ ما تزال الإدارة التونسية تتسم بالبيروقراطية المعقدة التي تؤدي إلى تعطيل المشاريع وتأخيرها. كما يوجد تضخم تشريعي ومؤسساتي يعوق تحقيق الأهداف. بالإضافة الى أن غياب آليات فعالة للمتابعة والمحاسبة يؤدي إلى الفشل في تحويل القرارات السياسية إلى إنجازات ملموسة.
غير ان هذه الإشكالية التي تعاني منها تونس في الوقت الحالي ليست حكرا على تونس فقط بل عانت منها عديد الدول لأسباب وعوامل يمكن ان تكون مختلفة او مشابهة للواقع التونسي. وما دمنا في ذكر التجارب المقارنة فان تونس يمكنها أن تستأنس بتجارب بعض الدول التي تخطت مسألة العوائق وحققت قفزات نوعية على درب البناء والانجاز. واهم هذه التجارب هي تجربة الإصلاح القاعدي التي اعتمدتها الدولة الآسيوية سنغافورة حيث تمثل تجربتها مثالا بارزا على كيفية إصلاح الدولة من القاعدة إلى القمة. اذ ركزت على وضع رؤية واضحة، وتدريب الكوادر الحكومية، وضمان الكفاءة في كل المستويات الإدارية. وتونس يمكنها الاستفادة من هذا النموذج عبر الاستثمار في تطوير الكفاءات المحلية، ووضع استراتيجيات طويلة المدى تكون مرنة وقابلة للتنفيذ.
ثم تجربة مصارحة الشعب وتشريكه في تحمل الأعباء التي اعتمدتها دول مثل ألمانيا ونيوزيلندا خلال الأزمات، حيث تم إطلاع المواطنين على الواقع الاقتصادي والقيود الموجودة بشفافية، مما زاد من ثقتهم في الدولة. وعلى تونس في الوقت الحالي أن تعتمد على سياسة إعلامية صادقة تُطلع المواطنين على الحقائق، مع تقديم خطط واضحة تبين الأولويات والخطوات المقبلة.
اما التجربة الثالثة التي يمكن الاستئناس بها فهي اختيار تربية نشء جديد قادر على تحمل المسؤولية. وهي تجربة اعتمدتها فنلندا في إصلاح التعليم وتعتبر مثالا يُحتذى به. حيث استثمرت في التعليم لتنشئة جيل جديد قادر على التفكير النقدي وتحمل المسؤولية بروح ابتكارية. وتونس كذلك يمكنها تحسين النظام التعليمي لتربية أجيال واعية بالتحديات، وقادرة على الإبداع وحل المشكلات.
وتبقى تجربة رواندا في تبسيط الإجراءات ومحاربة البيروقراطية أحسن مثالا للنجاح حيث استلهمت هذه الدولة الافريقية الخارجة لتوها من حرب أهلية مدمرة للبلاد والعباد، مناخًا جديدًا للأعمال والتنمية من خلال تبسيط الإجراءات الإدارية ومحاربة الفساد بقوة. وبالاستئناس بهذه التجربة يمكن لتونس إنشاء هيئات مختصة في مراقبة المشاريع والإشراف على تنفيذها بسرعة وشفافية، مع إشراك القطاع الخاص والمجتمع المدني.
خلاصة القول ان المعضلة التي تواجه تونس ليست فقط في غياب الموارد أو كفاءة المسؤولين، بل أيضًا في غياب رؤية استراتيجية موحّدة تتماشى مع الواقع. ولتحقيق التغيير المطلوب، يجب العمل على بناء مؤسسات قوية قادرة على تحويل الخطط إلى أفعال، مع وضع آليات واضحة للمساءلة. فالإصلاح القاعدي والمصارحة الصادقة مع الشعب، بالإضافة إلى الاستثمار في الأجيال المقبلة، هي خطوات أساسية نحو بناء تونس جديدة تتجاوز الصعوبات الراهنة وتحقق التنمية التي يطمح إليها مواطنوها.
بكل هدوء : لماذا يحتاج المسؤول في تونس اليوم إلى الخضوع لتجربة «سيف دمقليس»؟
تحظى «وظيفة» أي مسؤول في الدولة بصفة عامة بزخم خاص، فهي مبلغ حلم الكثيرين، إن لم نقل الأغ…