2024-11-24

بكل هدوء : لماذا يحتاج المسؤول في تونس اليوم إلى الخضوع لتجربة «سيف دمقليس»؟

تحظى «وظيفة» أي مسؤول في الدولة بصفة عامة  بزخم خاص، فهي مبلغ حلم الكثيرين، إن لم نقل الأغلبية من النخب السياسية و الثقافية والأكاديمية، لما تنطوي عليه من امتيازات ومنافع، وحظوة وسلطة، وسطوة وشهرة، وقرب «حميمي» من صانع القرار، وهذا في الغالب، هو ما يُغري  اي مسؤول سام في الدولة، أو هذا هو الوجه الجميل والمخملي والسعيد لعالم القوة والسلطة، الذي يطغى على أي وجه آخر للوظيفة السامية، مع إغفال الأثمان المؤجلة والمعجلة التي ستدفع، فمع كل تلك المتع والملذات والجاه، هناك مخاوف ووساوس و ضغوطات وإكراهات لا ترى بسبب الزجاج المعتم، ومثلما هناك معجبون ومفتونون وخدم وحشم، هناك حسّاد ومتآمرون وصيادو عثرات، ومثلما هناك طريق مفروشة بالسجاد الأحمر تقود إلى الوزارة او الى المنصب، هناك طريق أخرى مليئة بالأشواك والمآسي تقود إلى نهايات غير مأمولة، والأهم من هذا كله، أن هذه الوظيفة «الذهبية» أمانة ومسؤولية عظيمة، إذا لم تعط حقها و لم تحقق الغايات الجليلة منها، لاسيما جلب المنفعة و الخير للوطن والناس، فعظّم الله أجر الوزير في الدنيا والآخرة.

لقد ترك لنا الفيلسوف والخطيب الروماني «شيشرون» أثرا ماتعا ومعبرا عن معنى أن تكون حاكماً أو وزيرا أو ذا سلطان على الناس، المعنى الخفي الذي لا يُدرَك إلا بعد الجلوس على الكرسي، وتجلى ذلك في قصة حاكم سيراكيوز، الطاغية «ديونيسيوس» الذي تميز زيادة على طغيانه وقسوته على رعيته، بقبس من الذكاء والحكمة، فكان أن تبادل الأدوار مع أحد المتملقين له يدعى «دمقليس»، هذا المفتون بالجاه والسلطة والمكانة، والذي لا يكف عن ذكرها أمام «ديونيسيوس» ويغبطه كونه حاكم يحوز كل تلك الملذات والمتع، والمكاسب والخدم؛ فاقترح عليه أن يكون حاكماً ليوم واحد ليتذوق حلاوة هذه المكانة ويجرّبها، فأجلسه على كرسي الحكم وأعدّت له الموائد العامرة بأصناف الطعام والشراب التي لا تخطر على بال، وضُربت المعازف و تحلقت حوله الجواري والخدم يأتمرون بأمره، واهتزت أمامه خواصر الراقصات والقرينات.

وهو يعيش باستغراق كبير، لحظة كونه حاكماً يملك القوة والسلطة، وأنه أسعد رجل في الكوكب، حتى جال فجأة بنظره إلى الأعلى، فارتعدت فرائصه وارتجف رعبا من هول ما رآه في السقف، وتجمد الدم في عروقه، وذهبت عنه تلك الفرحة وذلك الزهو، وتغيرت حاله إلى الاضطراب والخوف، فقد كان فوق رأسه سيف حادّ علّقه «ديونيسيوس» بشعرة ذيل حصان، يوشك أن يلامس رأسه، ويمكن أن يسقط عليه في أي لحظة.

سأل «ديونيسيوس» «دمقليس»: ما المشكلة؟ فأشار إلى هذا الخطر الذي فوق رأسه.

فقال له: «إني أعرف أن هناك سيف يهدد حياتك، ولكن لماذا يجب أن تقلق؟ إنني دائما ما أتعرض لأخطار قد تسبب لي فقدان حياتي في أي وقت».

في تلك اللحظة فقط، أدرك «دمقليس» خطأه، وطلب من الملك السماح له بالرحيل من فوره، بعد أن أدرك أن للثروة والسلطة جانبا سلبيا أيضا.

تحتاج هذه التجربة أن تطبق على كل مسؤول في الدولة يرى في الوظيفة التي يكلّف بها، مغنما ومطيّة لتحقيق مكاسب شخصية، على حساب الوطن والشعب.

ويحتاج كل مسؤول في تونس اليوم ان يدرك-وهذا ما أشار اليه الرئيس قيس سعيّد في تصريحاته الأخيرة خلال لقائه برئيس الحكومة-ان دوره محوري ومتجدد،يتجاوز الأدوار التقليدية إلى مستوى أكثر مسؤولية وفعالية في هذه المرحلة التي وصفها الرئيس بأنها «تاريخية». المسؤول اليوم في تونس مطالب بأن يكون مُلمّا بمعاناة الشعب، واعياً بتطلعاته، وأن يعمل بروح المبادرة لإيجاد حلول جذرية للمشكلات المتراكمة التي أرهقت البلاد لسنوات. لا مجال للتهاون أو التقاعس؛ بل المطلوب هو أداء واجب المسؤولية بحزم وشفافية، مع التركيز على تقديم خدمات أفضل للمواطنين. هذا الدور يستدعي وجود قيادة تنفيذية تتسم بالكفاءة والقدرة على استنباط سياسات إصلاحية تساهم في إزالة رواسب الفساد وسوء الإدارة التي أعاقت التنمية.

وان الفشل في أداء هذا الدور يحمل تبعات خطيرة، ليس فقط على مستوى ثقة المواطنين في الدولة، بل أيضًا على استقرار البلاد ومستقبلها الاقتصادي والاجتماعي. وهنا أشار الرئيس إلى أن التهاون أو التعطيل المتعمّد للخدمات أو القرارات من قبل أي مسؤول لن يُغتفر، بل سيواجه بعقوبات قانونية صارمة.  حيث أن إخفاق المسؤول في فهم حجم المسؤولية الملقاة على عاتقه أو تعمّده الاستمرار في نهج الترقيع والإهمال من شأنه أن يعرقل الجهود الإصلاحية، ويُغذي مشاعر الإحباط واليأس لدى المواطنين، مما يهدد بمزيد من التوترات الاجتماعية والسياسية.

وفي إطار إصلاح القطاعات المتضررة، يبرز دور المسؤول في حماية الثروات الوطنية، مثل الأملاك المصادرة، التي أهملت عمدًا لتقليل قيمتها بهدف التفويت فيها بأثمان بخسة. هذا السلوك يوضح خطورة الفشل الإداري الذي يحوّل ممتلكات الشعب إلى موارد مهدرة. لذلك، المطلوب من المسؤول اليوم هو تبني رؤية وطنية ترتكز على النزاهة والعمل الدؤوب لتصحيح هذه الانحرافات، وإعادة هذه الموارد إلى الدولة لضمان استخدامها بشكل عادل يخدم جميع التونسيين.

المسؤولية اليوم ليست مجرد وظيفة، بل واجب وطني وأخلاقي تتوقف عليه قدرة تونس على استعادة مسارها التنموي واستعادة ثقة شعبها بمؤسساتها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

للقطع مع ممارسات الماضي ومؤسساته : تونس ورؤية الهدم وإعادة البناء

تواجه تونس اليوم خياراً استراتيجياً في مسارها التنموي يتمثل في كيفية إعادة بناء الدولة وتح…