بكل هدوء : بين الموجود والمأمول..
يتراءى للمرء وهو يتابع أخبار تونس في المدة الاخيرة، انها تسابق الزمن لضمان الأمن الغذائي لمواطنيها وتوفير المواد الغذائية الأساسية بأسعار معقولة، وذلك وسط تحديات معقّدة تتطلّب معالجة شاملة من عدة زوايا. وأحد أهم أوجه هذا التحدي الذي نراه يكمن في إعادة تأهيل واستصلاح الأراضي الفلاحية وتطوير القطاع الفلاحي الذي يعاني منذ سنوات من تراجع الإنتاجية وضعف الاستثمار. وفي الحقيقة، يعد هذا التوجه نحو إصلاح القطاع الفلاحي خطوة أساسية نحو تعزيز إنتاج الغذاء محلياً وتقليل الاعتماد على الواردات، وهو ما يحمي الدولة من التقلّبات في الأسواق العالمية التي تؤثر سلباً على أسعار الغذاء محلياً.
إلى جانب ذلك، توحي المشاهد والإجراءات بأن تونس تسعى إلى مكافحة الاحتكار والمضاربة اللذين يؤثران بشكل كبير على أسعار السلع ويزيدان من معاناة المستهلكين. اذ تشكّل شبكات الفساد وعناصر الاحتكار داخل سلاسل الإنتاج والتوزيع عائقاً كبيراً أمام تحقيق هذا الهدف، حيث يؤدي التلاعب بالأسعار إلى زيادات غير مبررة في كلفة السلع. ولهذا الغرض، تعمل الدولة على استعادة السيطرة على سلاسل الإنتاج وضبط الأسواق عبر وضع آليات رقابية صارمة وفرض عقوبات على المخالفين لضمان العدالة في توزيع السلع ووصولها إلى المستهلك بأسعار تناسب الجميع.
كما أن التركيز على تعزيز قيمة العمل وتحسين أداء المؤسسات العمومية، لا سيما تلك المرتبطة بقطاعات الإنتاج والزراعة، يأتي كعنصر جوهري في جهود تونس لتحقيق أهدافها. وتهدف الدولة وفق التصريحات المعلنة بصفة متكررة إلى ترسيخ ثقافة جديدة داخل المؤسسات العمومية تركز على الكفاءة والشفافية، مما يسمح باستعادة ثقة المواطنين وتعزيز جودة الخدمات والإنتاج. لكن الا يتطلب هذا تحسين آليات الحوكمة داخل دواليب الدولة وترسيخ مبادئ النزاهة والمساءلة، إلى جانب دعم الكفاءات الوطنية وتأهيلها للعب دورها بفعالية؟
ان المعلن الى حد الان هو الدفع نحو إعادة قيمة العمل داخل دواليب الدولة واعتباره جزءًا لا يتجزأ من هذه الاستراتيجية، حيث تسعى الحكومة، كما صرح بذلك رئيس الحكومة خلال مناقشة ميزانية الدولة للسنة المقبلة، إلى بناء بيئة إنتاجية متكاملة تعتمد على الدعم الموجّه للمزارعين، وتحسين شروط العمل، وتوفير الموارد الملائمة لضمان جودة الإنتاج واستمراره. وبهذا، حسب رأيها، يكون الإصلاح في قطاع الزراعة جزءًا من رؤية أوسع لإعادة هيكلة الاقتصاد التونسي ليصبح أكثر عدلاً وكفاءة في مواجهة الأزمات، مما يساهم في استقرار البلاد وتوفير الأمن الغذائي للمواطنين بأسعار مقبولة.
لكن أيضا، الا تُعد هذه التحديات جزءاً من سياق عالمي صعب يجعل تحقيق الاكتفاء الغذائي تحدّياً معقّداً لأي دولة، لا سيما في دول مثل تونس التي تعتمد على استيراد نسبة كبيرة من احتياجاتها الغذائية الأساسية؟ هنا وجب التذكير أيضا بأن سيطرة الرأسمالية العالمية المتوحشة في اغلب تجلياتها، على مسالك التوريد والأسعار، مع ارتفاع تكاليف الإنتاج والنقل، يزيد من الضغوط المالية على الدول التي تحاول الحفاظ على استقرار أسعار الغذاء. أضف إلى ذلك تأثيرات التغير المناخي التي تلقي بظلالها على الإنتاج الزراعي، سواء بسبب الجفاف المتزايد أو تراجع مخزون المياه، مما يضع القطاع الزراعي أمام معضلات بيئية إضافية.
لكن، منطقيا ورغم صعوبة الظرف الذي تمر به بلادنا، فإن مواجهة هذه التحديات ليست مستحيلة، وتستدعي حتماً تبنّي استراتيجيات مرنة تعتمد على التكامل بين الموارد المحلية والتقنيات الحديثة، كما تتطلب سياسات طويلة المدى تقلل من الاعتماد على مسالك التوريد العالمية. على سبيل المثال، يمكن لتونس تعزيز الاستثمارات في الزراعة الذكية التي تراعي تقنيات الري المستدام وتحسين البذور والتنوع البيولوجي، وهي خطوات تقلل من التأثير السلبي لشح الموارد وتغير المناخ.
أيضاً، بإمكان تونس الاستفادة من الطاقات الشبابية وتطوير نظم متقدمة للزراعة المستدامة، وتعزيز البحث العلمي في مجالات مقاومة الجفاف وتحسين الإنتاجية الزراعية. وهي جهود تتطلب بالفعل سياسات حكومية داعمة وتعاوناً إقليمياً مع دول مجاورة لمواجهة هذه التحديات المشتركة، إضافة إلى وضع سياسات حمائية وإطار قانوني يكافح المضاربة ويحمي الإنتاج المحلي.
ففي مثل هذا المجال، يمكن أن تساهم التحالفات الاقتصادية الجديدة وبدائل التمويل التنموي في دعم هذه التوجهات، وكذلك التنسيق الإقليمي الذي يساهم في تحقيق الأمن الغذائي في منطقة المغرب العربي عبر تكامل القدرات وتبادل الموارد الزراعية وتقنيات الإنتاج. وتبقى إرادة الدولة لتبني إصلاحات حقيقية تضمن الحوكمة الرشيدة وتقليل الفساد، هي نقطة الانطلاق الأساسية التي تضمن مساراً أكثر استدامة وأماناً لتونس وسط هذه التحديات العالمية، مهما كانت صعوبة الوضع.
بكل هدوء : تونس وتحدّي أمنها السيبراني
في ظل التطور التكنولوجي المتسارع، أصبح من الضروري لتونس الاستثمار في بناء القدرات البشرية …