بكل هدوء : حتى لا يقال تونس بلد فلاحي ليس لها فلاحة
إصلاح الأراضي الدولية في تونس شيء جيد ومستحسن، لكنه ليس الا خطوة من جملة خطوات كثيرة يجب ان تستمر للنهوض بالقطاع الفلاحي وانقاذه، خصوصًا في ضوء التحديات التي يعاني منها مثل تأخر تحديثه وعصرنته، وضعف الموارد المائية وشحتها. فبالنظر إلى طبيعة البلاد وتضاريسها وحاجاتها الغذائية وتقاليدها الانتاجية، يُعتبر القطاع الفلاحي ركيزة أساسية للاقتصاد الوطني، ولكنه ظل يواجه عقبات تتطلب إصلاحات جذرية. وتعكس إجراءات فتح ملف الأراضي الدولية انطلاق البدء في عمليات الإصلاح. اذ ان فقدان مساهمة الأراضي الفلاحية الدولية في تحقيق الأمن الغذائي، وتوفير فرص العمل وتحسين حياة سكان المناطق الريفية، قد أضر بتوازنات القطاع الفلاحي وبمردوديته الاقتصادية والاجتماعية والمالية وأصبحت تمثل نقطة ضعف في بلد يعتمد اقتصاده تاريخيا وبالأساس على الفلاحة دون ان ينتفع شعبه من الفلاحة. فاغلب الأراضي الدولية أضحت بورا وغير منتجة، واهم منتجاتنا الفلاحية (التمور، زيت الزيتون، القوارص، الأسماك..) لا ينتفع بها المستهلكين من شعبها، وتصدر الى الخارج وتذهب مداخيلها من العملة الصعبة في البنوك الأجنبية او في جيوب بعض المحظوظين.
ويبدو ان هذه الإجراءات كانت استجابة لإشكاليات عديدة، منها أنماط الزراعة التقليدية التي لم تتطور بما يتماشى مع احتياجات السوق أو تغيرات المناخ، مما جعل الإنتاجية محدودة وغير قادرة على مواجهة الطلب المحلي أو التصدير. فاغلب الأراضي الفلاحية الدولية اليوم أصبحت غير منتجة وشبه قاحلة مما يستوجب الاستعجال في العمل على تطوير بنى تحتية فلاحية أكثر كفاءة تشمل تحسين انظمة الري، وإدخال تكنولوجيات حديثة في العمليات الزراعية، وتوسيع دور الفلاحين الصغار والمتوسطين في تنمية الإنتاج الزراعي.
ويعتبر نقص المياه من أكبر التحديات التي تواجه القطاع الفلاحي في تونس، حيث إن جزءاً كبيراً من المناطق الزراعية يعتمد على مياه الأمطار، والتي تتسم بالتقلب وضعف التوزيع. ولهذا، فإن مشاريع إعادة تأهيل الأراضي الزراعية يجب ان تركز على تحسين انظمة الري بالتنقيط وانظمة تجميع المياه. وقد تمكنت بلدان مثل المغرب والأردن من تحقيق نجاحات ملحوظة في هذا المجال من خلال تحسين تقنيات الري وتوظيف السياسات المائية الفعالة، بما يجعل من حظوظ نجاح مواجهة مشكلة المياه في القطاع الفلاحي كبيرة خاصة لو استفدنا من تجارب بعض البلدان، على غرار التجربة الصينية.
فاغلب الدول التي واجهت تحديات مشابهة، قامت بعدة خطوات إصلاحية مثمرة. على سبيل المثال، تبنت كل من “تركيا” و”المغرب” استراتيجيات طويلة المدى لإصلاح الأراضي الفلاحية، وادخلت تقنيات زراعية حديثة، ما أدى إلى زيادة إنتاجية المحاصيل وتحسين استدامة الموارد. كما أن “إسبانيا” التي تعاني أيضًا من شح الموارد المائية نجحت في تعزيز كفاءة استغلال الأراضي من خلال التركيز على محاصيل معينة ذات قيمة ومردودية اقتصادية عالية، واستعمال طرق عصرية جديدة في الزراعة، حيث تتيح مثلا انظمة الإنتاج الزراعي الدائري (Circular agriculture) حماية الموارد الطبيعية مع استدامة الزراعة، وهي طريقة من بين طرق زراعية كثيرة يتوجب على تونس متابعتها والاستئناس بها. وهنا يمكن الإشارة الى ان تونس لا تعوزها البحوث العلمية في المجال الزراعي بل ان لها خبرات وكفاءات وبحوث كثيرة في هذا المجال، غير ان سيطرة الجمود والفلاحة التقليدية وغياب روح المبادرة والمغامرة لم يسمح بتطبيق هذه الطرق الجديدة التي يجب ان تتماشى بالضرورة مع البيئة التونسية ونوعية التربة.
من جهة أخرى تحتاج عمليات إصلاح الأراضي الزراعية إلى تنظيم قانوني داعم، حيث يمكن للقوانين أن تضمن تخصيص الأراضي لمشروعات فعالة زراعياً ومساهمة في المجهود الوطني، وان تشجع على الاستثمار في البنى التحتية الفلاحية الحديثة. كما تحتاج الفلاحة التونسية إلى إصدار تشريعات أكثر وضوحا، تحفز الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وتبين بالشفافية اللازمة سبل الاستثمار في الأراضي الفلاحية، مما يسهم في تقليل المشاكل والحد من الفساد الذي تفشى منذ سنوات في طرق استغلال هذه الأراضي وتوزيعها والتصرف فيها، ويخفف العبء على الدولة في خصوص توفير الغذاء للشعب واستنزاف المخزون من العملة الصعبة.
ويبقى دعم الدولة من خلال وزارة الفلاحة وفروعها وكوادرها ضروري، على غرار توفير الإرشاد الفلاحي والمساعدة في إدخال التكنولوجيات الحديثة وتحسين البنى التحتية المائية وتقديم العون المادي واللوجستي وتهيئة الإطار القانوني وحماية البذور الاصلية. بالإضافة الى إصلاح السياسات المائية والتشجيع على نظم الزراعة الذكية التي تعتمد على استغلال الموارد المتاحة بأفضل صورة. كما يمكن أن تؤدي حملات التوعية والتدريب للفلاحين دورًا رئيسيًا في تبني الممارسات الزراعية الحديثة.
خلاصة القول ان إصلاح الأراضي الدولية في تونس وإعادة هيكلتها وتحسين منتوجيتها اجراء مهم ضمن جملة من الإجراءات الضرورية والمطلوبة لتحقيق أهداف الأمن الغذائي والاستدامة الاقتصادية. فكما أثبتت تجارب دول أخرى، فإن الإصلاح الفعّال للقطاع الفلاحي يعتمد على مدى توفر إطار تشريعي متماسك، ودعم حكومي متواصل، وتعاون بين مختلف الفاعلين في القطاع من فلاحين، ومستثمرين، ومؤسسات حكومية. وان نجاح تونس في تنفيذ هذه الإصلاحات سيمكنها من تعزيز موقعها كمصدر للمنتجات الزراعية وتحقيق التنمية المستدامة في المناطق الريفية، ما قد يكون حافزاً لتحقيق الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي في البلاد.
بكل هدوء : نحو بناء اقتصاد وطني جديد
ينص الدستور التونسي على ان الدولة التونسية تضمن التعايش بين القطاعين العام والخاص، وهو تعا…