من أكثر القطاعات التي تحتاج الى «حرب تحرير وتطهير» كبرى، قطاع الثقافة و«ثكنته البيروقراطية» التي تسمى وزارة الثقافة وعليها حِمْلٌٍ ثقيل جدا وفوضى عارمة مسّت كل الآداب والفنون التي تنتمي ـ اجرائيا ـ لهذه الثكنة المكتظة بالموظفين ولها فروع وادارات مركزية على امتداد الجغرافيا التونسية…
هي وزارة شاسعة بحساب المباني والعتاد البشري لكنها ـ في المقابل ـ وزارة ضيقة جدّا على أهلها من رجال الفكر والثقافة والفن والابداع وتكاد تكون وزارة بلا محتوى تدير الشؤون الثقافية دون أن تكون لها سياسات واضحة أو خارطة طريق مرجعية وانما تجري المياه مجرى عشوائيا كما يقولون ونحن ـ هنا ـ لا نتحدث عن ادارة وزيرة الثقافة الحالية الفنانة أمينة الصرارفي وإنما نتحدث عن وزارة منسية ومتروكة للعبث والتهميش منذ تسعينات القرن الماضي وما يزال حالها كما هو عليه وقد كان الرئيس قيس سعيد في احدى زياراته غير المعلنة لأحد المعالم التاريخية قد وقف على حجم الخراب الذي هرّأ المؤسسات الثقافية وحجم اللامبالاة واللامسؤولية التي دمرت المباني كما المعاني وكل واجهات الآداب والفنون التي من المفترض ان نفتخر بها أمام الامم والشعوب باعتبارها عنوان المحتوى الذي يعكس هوية البلد وتنوعه الثقافي…
أول أمس استقبل الرئيس قيس سعيد السيدة أمينة الصرارفي وزير الثقافة الوافدة حديثا على هذه الوزارة المتروكة، والرئيس يعرف جيدا ـ كما اشرنا ـ حجم الخراب في هذا القطاع ـ ادارة ـ وانتاجا ـ ودعما ـ ومؤسسات ـ كما يدرك حجم الابتذال الذي أصبحت عليه المهرجانات الصيفية المرجعية اضافة الى التراجعات غير المقبولة التي عرفتها أيام قرطاج السينمائية والمسرحية زائد تواضع الانتاج وضيق حال الفنانين في تونس…
الرئيس خلال استقباله للوزيرة أعلى من شأن الثقافة وأهلها وارتقى بها إلى مراتب الوزارات السيادية واعتبرها عنوانا من عناوين معركة التحرير الوطني وأكد في هذا السياق :«وبدون ثقافة وطنية تتنزل في اطار معركة التحرير الوطني لا يمكن تحقيق عديد الاهداف ومن بينها التصدّي للاستلاب الفكري ولكل أنواع التطرف التي تغيّب الفكر الحرّ فضلا عن الارتقاء بالفن حتى يكون مصدرا للابداع في المقام الأول قبل أي مقام».
وهذا ـ في الواقع ـ ما كنّا أشرنا اليه في ورقات سابقة أكدنا فيها على مدى الاهمية البالغة للثقافة والفنّ في حياة الشعوب وبأن الثقافة قطاع سيادي بكل ما في الكلمة من حمولة رمزية ثقيلة وهو لا يقل أهمية عن قطاع التربية والتعليم بل هو صنوه في مستوى قدرته على تربية الناشئة وفي تدريب المجتمع على قيم المواطنة والديمقراطية وحقوق الانسان وعلى احترام التعدد والاختلاف ونحن هنا نتحدث عن قطاع بعناوين كبرى تضيء حياة الشعوب وتدل على وجودها الحرّ والراسخ…
في اللقاء مع وزيرة الثقافة تحدث الرئيس عن المهرجانات الصيفية الدولية أيضا ودعا الى ضرورة مراجعتها حتى تحقق الاهداف التي انشئت من أجلها كما دعا الى ضرورة ان تستعيد النوادي الثقافية دورها المحوري في تجذير الهوية الوطنية لدى التلاميذ والطلبة وتحفيزهم على الفكر والابداع كما دعا المؤسسات التعليمية الى تحفيز الناشئة على تعلم مختلف الفنون… ولم ينس الاشارة الى الاهمال الكبير لعدد من المعالم الاثرية والتي تم نهب ما بها من ثروات تاريخية…
نحن لا ندري ـ في الواقع ـ ما الذي تقدمت به السيدة الوزيرة الى رئيس الجمهورية، ما المقترحات وما المشاريع المزمع تنفيذها…؟ وما تشخيصها لواقع المشهد الثقافي عموما…؟ خاصة وأنها من ابناء هذا المشهد وتدرك جيّدا طبيعته الهشة وخاصة في مستوى الوضعية الاجتماعية للفنان التونسي…
وبما أننا لا نعلم تفاصيل ما تقدم وما تأخر في اللقاء فإنه لا ضير من التذكير بأن جسد الثقافة في تونس مريض وعليه تشوهات عميقة والتي من المفترض معالجتها حتى لا تتحول الى علامات مرض مزمن لن تبرأ منه أبدا…
لقد تعرضت وزارة الثقافة على امتداد عقد ونيف الى كل أشكال التهميش واللامبالاة… وزارة تركها أهلها للعابرين ممّن تولوا اداراتها عشوائيا ثم مضوا بعدما أفسدوا فيها ما أفسدوا وغنموا منها ما غنموا ولم يصلحوا من الاحوال غير أحوالهم…
من وزراء الثورة… الى وزراء الدولة… كلهم مروا مرور الكرام على جسد مريض ولا أحد منهم تقدّم بمشروع انقاذ واصلاح لتخليص الوزارة من «الجاثمين عليها» «حرّاس المعبد القدامى» ممّن عطلوا كل امكانات تحديثها وتحديث تشريعاتها… فنحن أمام قطاع لم يمسسه أي تغيير تشريعي منذ ستينات القرن الماضي… ذات التشريعات وذات المقاربات التي ترى الثقافة «شأنا ترفيهيا» ولم تنتقل هذه القاربات الى ما هو أعمق في مستوى التصورات وذلك ببناء رؤية جديدة تكون نابعة من داخل القطاع ذاته ـ لا من داخل الادارة العميقة ـ في اتجاه تأصيل هوية مخصوصة تثري الثقافة التونسية وتدل عليها…
نختم بالتأكيد على أنه من الضروري مراجعة السياسات العمومية في مقاربتها للشأن الثقافي والتي ما تزال تتعاطى مع الثقافة كونها حصص ترفيه على المواطنين… وما لم تتغيّر هذه المقاربة فإنه لا يمكن بأي حال من الاحوال ومهما كانت قوّة العزائم تبديل الحال ونعتقد أنه قد آن الأوان للتفكير في بعث «المجلس الأعلى للثقافة» على غرار «المجلس الاعلى للتربية والتعليم» والذي توكل إليه مهمة اعادة بناء الحياة الثقافية في تونس واصلاح كل ما تداعى فيها وما خرب والانتقال بالوزارة من وضعها الحالي «كثكنة بيروقراطية» الى فضاء ابتكار وابداع وتفكير، مع العمل على تحديث التشريعات المعطلة بما يدفع الى فتح الآفاق أمام أهل الثقافة والفنون والآداب…
الاصلاح ممكن وغير مستحيل شرط أن تكون العزائم صادقة وقوية من أجل تحرير القطاع من مفسديه.
ثلاثة محاور مركزية في مجلس الأمن القومي : اختلفت العناوين.. و«الحرب واحدة»..!
تناول مجلس الأمن القومي الذي أشرف على أشغاله الرئيس قيس سعيد أول أمس ثلاثة محاور أساسية…