إستهداف المربين والمؤسّسات التربوية : السيناريو يتكرّر … و العنف بلغ درجة عالية من الخطورة
المنظومة التربوية في حاجة أكيدة اليوم للبناء على أسس صلبة تقطع مع كل التشوّهات التي طالت قلاع المعرفة وقد باتت مُستباحة داخليا وخارجيا وعلى جميع الأوجه ….البناء من الأولويات لتعديل البوصلة وتصحيح المسار وإعادة الاعتبار لمنظومتنا التربوية …نقول هذا وقد تواترت أحداث العنف لتبلغ مرحلة الجريمة وليختلط فيها الضحايا بين الناشئة والمربين والدخلاء على المنظومة ولتتكرر سيناريوهات العنف بعناوين مختلفة وان تعددت الأسباب فإنها تصب في نقطة التقاء واحدة هي أن الوضع خطير والإصلاح لا يحتمل التأجيل …
حوادث تطرح سيلا من الأسئلة عن الأسباب الكامنة وراء التجرؤ على المربي ؟ وتجرؤ الغرباء على المؤسسة الدوافع والأسباب؟ هل أصبحت مؤسساتنا مرتعا لمن هبّ ودبّ ؟ لماذا تنتهك حرمة المربي ويتم الاستخفاف بهيبة المؤسسات التربوية؟
فظاهرة انتشار العنف في المؤسسات التربوية تعدّ من الظواهر المعقدة التي تستلزم فهمًا عميقًا لأسبابها وتطبيقا لآليات فعالة كفيلة بمعالجتها بصورة جذريّة. وتتأثر هذه الظاهرة بعدة عوامل، منها الخارجيّة على غرار طبيعة المجتمع الذي تنتمي إليه المؤسسة التربوية وما تخترقه من توتّرات، ومنها الدّاخليّة التي تهمّ واقع هذه المؤسّسة ومدى قدرتها على توفير بيئة حاضنة ودّية ومستقرّة. ومن المهم جدّا في هذا السّياق أن نأخذ في الاعتبار ما طغى على المشهد الاجتماعي والتّربويّ في بلادنا، ، من توتر وعدم استقرار، علاوة على انتشار السلوكات العنيفة في الحياة اليومية والواقع الافتراضي على حدّ سواء.. كلّ ذلك أوجد بيئة مواتية لانتشار العنف بمختلف أشكاله داخل المؤسسات التربوية وألقى بظلاله على جودة العلاقات داخلها….ولعل مرحلة العنف تجاوزت كل المقاييس ليتواصل سيناريو التجرؤ على المربين وانتهاك حرمتهم وعلى المؤسسات التربوية في تجاهل لهيبتها …
في هذا السياق يقول سليم قاسم رئيس الجمعية التونسية لجودة التعليم أن ما شهدته إحدى المؤسّسات التّربويّة من اعتداء بالعنف الشّديد من قبل أحد الأولياء على مدرّسة تعليم ابتدائيّ، وذلك بسبب إسنادها عدداً ضعيفاً لابنه في امتحان، حادثة مؤسفة تعكس واقعاً مريراً. إنّ هذا التصرّف مدان بأشدّ العبارات لما يمثّله من انتهاك صارخ لحرمة جسد المدرّس وكرامته، ولما يعكسه من استخفاف بهيبة المؤسّسة التّربويّة وموظّفيها، والحال أنّهم يعملون جاهدين على تربية وتنشئة جيل المستقبل. هذا الحادث يتجاوز كونه مشكلة فرديّة؛ بل يشير إلى أزمة أعمق في المجتمع التّونسي، يجب أن ننظر إليها بتمعّن لمعالجة الأسباب وإيجاد الحلول.
إنّ هذا التّصرف المروّع لا يمكن عزله عن السّياق المجتمعي العام، حيث لاحظنا تفشّي العنف في تونس بعد أحداث 2011، فقد أثّرت تلك الفترة وما تبعها من اضطرابات وفوضى على القيم المجتمعية الأساسية، ومنها قيمة الاحترام المتبادل بين مختلف فئات المجتمع، وخصوصاً تجاه المؤسّسة التّربويّة. فأصبحنا نرى أولياء يتجرّؤون على التدخّل في عمل المعلّمين، وأحياناً عبر وسائل عنيفة، ممّا يدلّ على انحراف خطير في طريقة النّظر إلى المؤسّسة التّربويّة ودورها.
إنّ التّوتر الحاصل بين شريحة متنامية من الأولياء والمدرّسين ليس سوى نتاج تراكمات نفسية واجتماعية، وغالباً ما يخفي هذا التّوتر تجارب تعليميّة سابقة عاشها بعض الأولياء بأنفسهم، مثل التعرّض للتنمّر أو الانقطاع عن الدراسة، والتي تولّد لديهم عدم ثقة بالمؤسسة التربوية ورغبة في «حماية» أبنائهم منها بأيّ ثمن. وبالتالي، يتزايد الاحتقان ويؤثّر سلباً على علاقة الولي بالمعلّم، ليصل إلى حدّ التدخّل غير المبرّر في سير العملية التّعليميّة وأحياناً بالعنف.
كما أن هذه الظاهرة تسلط الضوء على مشكلة عميقة في المنظومة التّربويّة التّونسيّة، ألا وهي «ديكتاتوريّة الأعداد» فالكلّ يلهث خلف النّتائج الرقميّة، وتصبح الدرجات هي المقياس الوحيد للنجاح، بدلاً من التركيز على التقييم التّكويني الّذي يعكس تطوّر مهارات المتعلّمين وقدراتهم الفعليّة. هذا الانغماس في تحقيق الأعداد أدى إلى مشاكل كبرى، منها انتشار الدّروس الخصوصيّة، وزيادة معدلات الغشّ في الامتحانات، والرهاب الذي يصيب التلاميذ بسبب الامتحانات، ما يؤثّر سلباً على جودة التّعليم.
ويؤكد قاسم أنّ هذه الحادثة ليست سوى دقّ ناقوس خطر يستدعي منّا مراجعة جذريّة لمنظومة التّقييم المعتمدة في تونس. حيث لا يمكن الاستمرار في تقييم المتعلّمين بناءً على درجات أضحت فاقدة للمعنى، بل يجب التّركيز على بناء مهارات التّفكير النّقدي، وتعزيز الكفاءات الأساسيّة التي تجعل من المتعلّم قادراً على التّفاعل الإيجابي مع مجتمعه. إنّ إعادة صياغة آليّات التّقييم ستساعد في التّخفيف من التّوتّر الحاصل بين الأولياء والمدرّسين، وستعيد للمؤسسة التربويّة دورها الطّبيعي كمكان للتّعليم والتّربية لا لسوق الأعداد.
في الختام، جدد رئيس الجمعية التونسية لجودة التعليم الدعوة إلى ضرورة إحداث ثورة في طريقة النّظر إلى التّقييم والنتائج في مؤسّساتنا التّربويّة، لنضع نصب أعيننا أولويّة تطوير مكتسبات المتعلّمين ورفع جودة التّعليم، بعيداً عن ضغوط الدّرجات وأثرها السلبيّ على المتعلّمين والأولياء والمدرّسين والمنظومة التّربويّة التي آن لها أن تتحرّر من القوالب الموروثة لتحقّق الثّورة التّعليميّة التي ننشدها جميعا.
في السياق نفسه يقول رضا الزهروني رئيس الجمعية التونسية للأولياء والتلاميذ أن الملاحظ أنّ ظاهرة العنف المدرسي أصبحت دائمة التطور من سنة إلى أخرى من حيث عدد الحالات ودرجة الخطورة ونخص بالذكر منها ما يستهدف المربين والتلاميذ عند وجودهم خارج أسوار المؤسسات التربوية أو داخلها والمتأتي من التلاميذ أن أنفسهم أومن أشخاص غرباء عن المدرسة. ولنُذكّر بان انطلاق السنة الدراسية الحالية تزامن في يومه الأول مع وفاة تلميذ تعرض إلى العنف الشديد من طرف شابين وعشنا يوم الاثنين الماضي حادثة تعرُّض معلمة شابة إلى الطعن من طرف أحد أقارب تلميذها بسبب حصوله على علامة تقييم ضعيفة على ما يبدو من خلال ما يتم تداوله بوسائل الإعلام الوطنية.
فالأسباب وفق الزهروني متعددة اجتماعية وعائلية وثقافية وتنظيمية وتربوية وقيمية وأخلاقية.ومظاهر العنف تختلف وتختلف معها نسب تواتره ودرجة خطورته وذلك من جهة إلى أخرى ومن مؤسسة تربوية إلى أخرى ومن فئة عمرية واجتماعية إلى أخرى.والاكتفاء بالتعامل مع هذه الظاهرة إعلاميا أو من خلال التنديد أو توجيه الاتهامات أو الدعوة إلى التجريم عند كل حادثة خطيرة أو استغلالها إعلاميا للضغط من طرف بعينه أو لتمرير رؤى فردية أو لفرض شروط بعينها لا يمكن أن يكون حلا في كل الحالات.
ويمثل انهيار أداء منظومتنا التربوية وفق محدثنا أحد الأسباب الرئيسية التي أدت إلى تفاقم حالات العنف المدرسي ببلادنا خلال السنوات الأخيرة والصادر خاصة من فئة المراهقين المحبطين وذلك من ناحيتي نسبة التواتر والخطورة. في حين أنّ إصلاح المنظومة التربوية يمثل اليوم شرط مستعجلا وضروريا من ضمن الشروط الأساسية للحد من هذه الظاهرة بصفة فعالة.ويتحمل كلّ من موقعه أولياء وإطارا تربويا وخاصة سلطة إشراف مسؤولية في تنامي ظاهرة العنف المدرسي بسبب عدم إرساء سياسات جدية وخطط واضحة المعالم والأهداف والمسؤوليات من خلال مقاربة عملية وميدانية وتشاركية متواصلة في الزمان والمكان للوقاية من العنف المدرسي ومقاومته تدريجيا.
وفي هذا السياق يؤكد محدثنا على ضرورة مراجعة منظومة التقييم للحد من تأثيرات عقدة التنافس والتميز عند التلاميذ وحتى الأولياء وهذا لا يعني بتاتا تبريرا لواقعة يوم الاثنين والتي تبقى مرفوضة تماما أصلا وشكلا. وفي المقابل يؤكد انه علينا الإقرار بدرجة الضّغط العالية التي يعاني منها تلاميذنا اليوم عندما يتمّ الترّكيز على النتائج الدراسية وعلى المعدلات العالية والبحث المتواصل عن التفوق والتميز. فعديد الأولياء يرون أنفسهم مضطرّين لمسايرة أيام دراسة طويلة ومُرهقة على مدار أيام السنة (دروس عادية، دروس خصوصية، فروض منزلية) وذلك منذ سنوات دراسة أبنائهم الأولى للبلوغ بهم إلى مستويات التميُّز. ومن جهة أخرى يرى محدثنا ان هناك من المدرسين ومن دون تعميم من يستعمل آلية التقييم لتبليغ رسائل غير أخلاقية للتلميذ ولا اريد أن أخوض في مضامينها. ومثل هذه السلوكيات تؤثر بالضرورة سلبا على معنويات المتعلم وتكون كلفتها باهظة ويتحملها الطفل ثم الشاب خاصة في مستوى بناء شخصيته وبنيته العاطفية ووعيه بالمعاني الفعلية للحياة والتعبير عليها في بعض الحالات بالعنف اللفظي والمادي.
والعديد من الأنظمة عالية الأداء تجاوزت هذه الإشكاليات من خلال الاستغناء على نظام التقييم بالنقاط (بالأعداد) وتعويضه بنظام تقييم يعتمد الحروف مع الحرص في الوقت نفسه على توجيه التلميذ وحثه على التركيز على نقاط ضعفه والتأكد من بلوغه المستويات المطلوبة في ما يتعلق بتحصيله المعرفي…
الدكاترة الباحثون المعطلون عن العمل : المراهنة على البحث العلمي آلية للبناء على أسس صلبة
نظم أمس الأربعاء الدكاترة الباحثون المعطلون عن العمل مسيرة انطلقت من وزارة التعليم العالي…