تناول مجلس الأمن القومي الذي أشرف على أشغاله الرئيس قيس سعيد أول أمس ثلاثة محاور أساسية… ولئن بدت عناوينها مختلفة فإنها ـ في الواقع ـ مرتبطة ارتباطا كليا بل هي متشابكة تماما ويمكن وضعها مجتمعة تحت عنوان مركزي واحد وهو «مقاومة الفساد بكل أشكاله وبمختلف لوبياته وفي كل القطاعات».

في المحور الأول يؤكد الرئيس على أن الحرب على الفساد إنما هي واجب وطني مقدّس… وهنا يضع الرئيس هذه «الحرب» في نفس مرتبة الحروب التي تُخَاضُ من أجل الدفاع عن الأراضي الوطنية وسيادتها وبالتالي فإنه من باب الوطنية الانتماء الى هذه «الحرب المقدسة» كل من موقعه من أجل تحرير الأرض وتطهيرها من «مفسديها» وقد امتدوا ـ عميقا ـ في مفاصل الدولة وفي منشآتها ومؤسساتها العمومية وغفلت عنهم «عين الرقيب» إمّا تواطؤا وإما من باب اللامبالاة أو من باب عدم الادراك لخطورة تواجد «هذه اللوبيات» داخل ما أصبح يُعرف «بالادارة العميقة» وهو توصيف يشير بالأصابع العشرة لهؤلاء الذين امتدوا وتغلغلوا في «الأماكن المظلمة» داخل المؤسسات العمومية من منشآت ووزارات حيث تدار كل المخططات الاجرامية من داخل هذا «العمق المظلم» وما حصل مؤخرا في الخطوط الجوية التونسية والذي قال عنه الرئيس قيس سعيد خلال مجلس الأمن القومي بأنه يرتقي الى مستوى الجريمة لا يمكن أن يكون نتاج «عمل فردي» وإنما هو عمل مخطط له مسبقا وفيه اضمار وتدبير وتخطيط وتنفيذ والعملية إنما تستهدف هذه الناقلة الوطنية والتي تعرضت على امتداد العشرية الماضية الى كل أشكال «النهب والتشويه والترذيل لأرضها ولسمائها» من أجل الدفع الى التفريط فيها لأطراف سعت بكل الأساليب للاستحواذ عليها وبالتالي تحويلها الى «ناقلة دولية خاصة»…

هذا غيض من فيض وما خفي كان أعظم كما يقولون فما تعرضت له المؤسسات والمنشآت العمومية خلال العقد الاخير من تدمير ونهب ممنهج إنما هو بثقل العواهن وللأسف فإن «أيادي الفساد» ما تزال ممدودة داخل المؤسسات العمومية وقد أشرنا في أكثر من سياق الى أنّ «المنظومة» التي أسقطها الرئيس قيس سعيد مساء 25 جويلية 2021 ما يزال أعوانها «مقيمين» داخل تلك «الدهاليز المظلمة» من «الإدارة العميقة» وقد أشار اليهم الرئيس في كلمته بمجلس الأمن القومي بقوله :«ان اللوبيات التي بدأت تتحرك هذه الأيام وامتداداتها داخل عدد غير قليل من الادارات والمؤسسات والمنشآت العمومية يقتضي الواجب المقدّس تفكيكها ومحاسبتها ومحاسبة كل من ينفذ مخططاتها الاجرامية…».

الحرب ضد الفساد هي «حرب مواطنية» وواجب وطني مقدس من المفترض أن ينتمي اليه كل التونسيين كل من موقعه ـ بطبيعة الحال ـ «فالتركة» ثقيلة جدّا وحجم الثروات المنهوبة ثقيل أيضا وقد استفادت منها بعض العائلات المتنفذة ممن استحوذت على ما يعتبر «ملكا عموميا» لصالح نفسها من ذلك «الملف الضخم» المعروف باسم «ملف هنشير الشعّال» ثاني أكبر غابة زيتون في العالم بـ 400 ألف شجرة زيتون منتجة وبقدرة تشغيلية عالية جدا وقد تم تفكيك هذا الملف مؤخرا بما أطاح «بلوبي الفساد» الذي كان مسيطرا على آلاف الهكتارات من الزيتون وعلى كل ما ينتجه «هنشير الشعال» على امتداد سنوات وبذلك تسترجع الدولة بعضا ممّا نهبه «لصوص العشرية» ومن بينهم رجال أعمال ومسؤولون من مواقع متقدمة في «دولة الاخوان» ممّن استفادوا من الفراغ الذي مرّت به المؤسسات الرقابية ما سهل لهم الطريق للافلات من العقاب أو هكذا بدا لهم الأمر الى أنْ «أتتهم الغاشية وما أدراك ما الغاشية»…

المحور الثاني الذي أثاره الرئيس قيس سعيد ضمن اشغال مجلس الامن القومي يتعلق بغلاء الاسعار وهذا محور ـ كما أشرنا ـ في علاقة مباشرة بمحور «الفساد» فالاحتكار والمضاربة في أسواق العرض والطلب هي من أخطر عناوين الفساد باعتبار أنها تستهدف أرزاق المواطنين وقوت يومهم اضافة الى فساد مسالك التوزيع التي يسيطر عليها كبار المحتكرين وقد صنعوا «مسالك موازية» بل أسواق جملة موازية لإضعاف «الاسواق الرسمية» وللمضاربة في الاسعار نضيف الى هذا كلّه ضعف الآليات الرقابية وعدم نجاعتها بالشكل الحالي اضافة الى عدم تجرّؤها أو عجزها على مداهمة «الحيتان الكبرى» والاكتفاء بمطاردة صغار التجار وهو ما أشار اليه الرئيس في كلمته الافتتاحية حيث أكد في سياق حديثه عن غلاء الاسعار:«على ان عمليات المراقبة التي تمّت في وقت من الأوقات لم تكن ناجعة وتم التركيز على صغار التجار وغضّ الطرف عن كبار المحتكرين كما أن أسواق الجملة توجد الى جانبها أسواق جملة موازية تسيطر على ما هو ظاهر وما هو مخفي في المسالك التي تعرف بمسالك التوزيع…».

أمّا المحور الثالث الذي اختتم به مجلس الامن القومي أشغاله فإنه لا يقل أهمية عن المحورين الأول والثاني باعتبار علاقته المباشرة بالأمن القومي وبأمن التونسيين عامة وقد أشار الرئيس الى الوضع المزري الذي أصبحت عليه مدينتي جبنيانة والعامرة من ولاية صفاقس والتي «اكتسحها» مواطنو جنوب الصحراء ممّن وفدوا على المدينتين و«أقاموا فيها الآذان» في غير توقيته في اشارة ـ هنا ـ الى حجم الكارثة على السكان الاصليين وقد يتحولون الى أقلية بعدما توالد الوافدون وتكاثروا وقد يغيّرون بفعل هذا التكاثر لون الأرض التونسية اذا ما استمر الحال على ما هو عليه وقد تحدثنا في ورقة سابقة عن تواطؤ دول الجوار في تسهيل عملية عبور افارقة جنوب الصحراء نحو الأراضي التونسية باعتبار أنه لا وجود لحدود مباشرة بين تونس ودول جنوب الصحراء وبالتالي فنحن أمام حركة عبور صعبة وقاسية جدّا يضطر خلالها الوافدون الى عبور كامل صحراء الجزائر تقريبا وكل الصحراء الليبية حتى يصلوا الى تونس وهي المسافة التي حوّلها «الكناطرية» الى تجارة مربحة وذلك بنقل الوافدين عبر الصحراء على متن شاحنات بمقابل ما خلق «حركية تجارية» غير قانونية يمكن تصنيفها ضمن «جرائم الاتجار بالبشر»سهّلت عملية العبور نحو ما أصبح يعرف «بالمكبّات» في الصحراء التونسية حيث يتم اطلاقهم في اتجاه الجنوب التونسي ومن ثمّة الى الآفاق المتقدمة في اتجاه الشمال أو الوسط لمن رغب في ذلك…

ولئن كانت تونس «دولة عبور» لهجرات مؤقتة الا أن هذا التواجد المؤقت قد تحوّل الى ما يشبه «توطينا» كاملا لأفارقة جنوب الصحراء على الأراضي التونسية وهو ما نلحظه على امتداد الجمهورية التونسية وقد توزعوا في كل مدنها ومعتمدياتها واحتلوا مفترقات الطرق وقد امتهن بعضهم مهنة التسوّل في المفترقات…

لقد تعاملت تونس مع افارقة جنوب الصحراء وفق منصوصات المواثيق الدولية ومن حقها في مثل هذه الاحوال ان تفرض قانونها على الوافدين لحفظ النظام ومن أجل سلامة مواطنيها لذلك دعا الرئيس في ختام المجلس الى تنشيط الديبلوماسية في هذا «الاتجاه السلمي» وذلك بالسعي الى تأمين العودة الطوعية للمهاجرين غير النظاميين الى بلدانهم الاصلية…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

«مجلس أعلى للثقافة».. من أجل إعادة البناء..!

 من أكثر القطاعات التي تحتاج الى «حرب تحرير وتطهير» كبرى، قطاع الثقافة و«ثكنته البيروقراطي…