في الشأن التربوي : من المدرسة التقليدية إلى المدرسة الرقمية
يسير التعليم التقليدي في العالم نحو الاضمحلال، بسبب التطورات التكنولوجية عالية المستوى التي دخلت حياة الانسان في العصر الحديث وخاصة ما له علاقة بتوظيف الرقمنة في التعليم باعتباره العنصر الأساسي للتنمية الاقتصادية والاجتماعية للدول . لذلك اتجهت المنظومات التربوية في عدة بلدان متقدمة إلى استغلال هذا التطور التكنولوجي في التعليم. مما أفرز ما نسميه اليوم بالمدرسة الرقمية . وسنحاول في هذا المقال توضيح مفهوم المدرسة الرقمية أو التعليم الرقمي وتأثيرها في أساليب التعليم والتعلَم في العصر الحديث، والفوائد المحتملة منها، وهل بالإمكان تطبيق هذه المقاربة في منظومتنا التعليمية؟ وما هي التحديات التي يمكن أن تواجهنا ؟
ما المقصود بالمدرسة الرقمية ؟
هي مقاربة تعليمية تعتمدها المدرسة بإدماج التكنولوجيات الحديثة في التعليم، من أجل تحويل في منظومات التعليم من شأنه أن يحسّن وسائل التعليم وآلياته .
وقد انطلق توظيف التكنولوجيات الحديثة في التعليم في العالم منذ ثمانينات القرن الماضي، بصورة محتشمة في البداية نظرا لصعوبة المهمة وتكلفتها العالية . نذكر هنا مثالا على ذلك المنظومة التربوية الفرنسية ، فالمدرسة الفرنسية تحتل المرتبة 18 بين بلدان الاتحاد الأوروبي في مسألة توظيف التكنولوجيا الرقمية في التعليم ، لكن لما حاولت اللحاق بالركب سنة 2015، رصدت اعتمادات تجاوزت قيمتها المليار أورو لتجهيز المؤسسات التربوية ببيئة رقمية . وإلى حدود سنة 2022 لم تنته من تجهيز سوى 80 % من المدارس الابتدائية.
توسعت رقمنة التعليم من خلال بعث عديد الدول مشاريع جادة لتوظيف الرقمنة. ولنا مثال على ذلك البرازيل التي انطلقت تجربتها سنة 2007 وحذت حذوها دول من أمريكا الجنوبية كالأرجنتين والمكسيك وبيرو والأوراغواي . لكن تعتبر كوريا الجنوبية وهولندا وأستراليا هي الرائدة في مجال توظيف الرقمنة في التعليم من زاوية ما أطلق عليه « إثراء البيداغوجيا بالتكنولوجيا » أي تصميم أنشطة بيداغوجية جديدة بفضل استعمال التكنولوجيا ( كما قال الأستاذ الجامعي المتخصص في الإدماج الرقمي في التعليم برنار كورنو Bernard Cornu في مقالته بمجلة سيفرSevres الدولية للتربية ، العدد 67 ديسمبر 2014 بعنوان : الرقمي والتربية في عالم متغير ) مما دعا تلك الدول إلى إعادة النظر في طريقة اشتغال منظوماتها التربوية لتتناسق مع مقاربة الرقمنة . واهتم البرلمان الأوروبي أيضا بالموضوع بداية من سنة 2021 عندما أصدر بالإجماع ما سماه « المرجعية المشتركة للبيداغوجيا الرقمية».
فوائد التعليم الرقمي
يهدف تطوير التعليم بتوظيف الرقمنة حسب المختصين إلى تمكين الناشئة من الكفايات والمهارات التي تعدّهم للاندماج في عالم مستقبلي قائم أساسا على الرقمنة وتوظيف تكنولوجيا المعلومات والاتصال وتطبيقات الذكاء الاصطناعي ومقبل على تطورات مذهلة . ويتميز العالم الرقمي الذي يكتسح حياتنا منذ الآن بالعمل التشاركي الشبكي باعتباره الوسيلة الوحيدة لبناء المعرفة والتواصل مع الآخرين ومعالجة المعلومة . لذلك نحتاج إلى تعليم الناشئة كيف يتعلمون ، وتمكينهم من المهارات التي تساعدهم على ذلك، لأننا في عالم يتغير بسرعة ، وتبرز فيه معارف جديدة يصعب على المدرسة مجاراتها، ويحتاج المتعلم إلى التشارك مع زملائه للتعامل مع تلك المعلومات وهو ما يخلق في المجتمع نوعا جديدا من الذكاء يسميه الباحثون « الذكاء الجمعي» الذي سيسيطر على المدرسة الرقمية ويقوم على أنقاض الذكاء الفردي الذي يسيطر على المدرسة التقليدية.
وبهذه الطريقة يستطيع المدرّس في المدرسة الرقمية أن ينوّع من موارده التكنولوجية ، ومن وسائل التدريس التفاعلية. وأن يعتمد مقاربات بيداغوجية جديدة تلبي حاجيات المتعلمين، وتساعدهم على رفع التحديات التي تواجههم ، وتحفزهم للتعلم، وتنمّي لديهم مهارات التفكير النقدي والإبداعي، وتؤسس لتفاعل بنّاء بين المتعلمين في ما بينهم، وبينهم وبين مدرسيهم ، بفضل مهارات التواصل والتعاون التي يكتسبونها من خلال برامج إعلامية وتطبيقات مناسبة لنسق تعلمهم. وبالتالي يطور المدرس من بيداغوجيته مما يسمح له بتواصل ناجع مع المتعلمين، ويساهم في تحسين دافعية التلاميذ للتعلم، وهي فرصة لتطبيق العدالة التربوية بين المتعلمين .
وتتطلب هذه المقاربة المعقدة توفير بيئة رقمية في كل المؤسسات التربوية على حد سواء لتحقيق العدالة التربوية مما يدعونا إلىتكوين المدرسين في استعمال الرقمنة في التدريس بصورة ناجعة وعادلة بين المتعلمين بحيث تكمل الرقمنة عمل المدرس ولا تلغيه . ونظرا لهذه الصعوبة أكدت دراسة عالمية في المجال أن 46 % من المدرسين المشاركين في الدراسة عبروا عن تخوفهم من الفشل في استعمال التكنولوجيات الحديثة في التدريس عندما تطبق المدرسة الرقمية في بلدانهم .
هل يمكن اعتماد التعليم الرقمي في منظومتنا ؟
إن إنجاز هذا المشروع الهام في منظومتنا التربوية ليس بالأمر الهيّن وتعترضه عدة عوائق وتحديات ، لكنه ممكن الانجاز بمراعاة بعض الضوابط منها خاصة :
ـ إعداد الفاعلين في المدرسة وفي الإدارة مسبقا وكذلك المجتمع والإعلام للتعامل مع منظومة جديدة مختلفة عن المنظومة التقليدية حتى نتفادى الصد الذي ينتج عن كل تغيير .
ـ تنظيم لقاءات مع الفاعلين لدراسة المشروع الجديد ومناقشة التجارب السابقة وتحديد روزنامة وخطة تنفيذ.
ـ توفير بيئة تكنولوجية في المؤسسات التربوية تساعد على توظيف التعليم الرقمي فيها مع اعتماد العدالة بينها وبالتعاون مع المؤسسات المهتمة بالاتصال وبشبكة الأنترنيت في بلادنا.
ـ توفير سبورات تفاعلية وأجهزة كمبيوتر أو لوحات إلكترونية في كل قاعات الدرس وما يلزم من وسائل عرض.
ـ توظيف الفضاء في القسم ليكون مناسبا لبيداغوجيا جديدة رقمية.
ـ إنتاج برامج وتطبيقات رقمية ووسائل بيداغوجية جديدة وتجميع الموارد المتواجدة على شبكة الانترنيت لوضعها على ذمة المدرسين من خلال منصة تعد للغرض . ووضع منصة موارد أخرى يستعملها التلاميذ وأولياؤهم.
ـ بناء مقاربة تقييم جديدة تتلاءم مع التعليم الرقمي.
ـ تكوين المدرسين في كيفية تطبيق البيداغوجيا الجديدة.
ـ تحسيس التلاميذ بأهمية المقاربة الجديدة وفائدتها بالنسبة إليهم.
وأخيرا يمكن القول، إن المدرسة الرقمية ما هي إلا استجابة نصفها بالاستراتيجية لحاجيات تربوية جديدة في مجتمع تغمره التكنولوجيات الحديثة تنتج عنها فوائد عدة ومتنوعة للمتعلمين والمدرسين . وباعتماد تلك المقاربة في التدريس فنحن نبني بيئة تعليمية حديثة متناسقة مع تحديات القرن الحادي والعشرين التكنولوجية . لكن وحتى يكون تطبيق المقاربة ناجعا نحتاج إلى الاستعداد الجيد وتوفير الوسائل التكنولوجية المساعدة على نجاح المقاربة ومتابعتها وتقييم أدائها وأثرها على المتعلمين وعلى مدى تطور مستواهم لأن بعض الدراسات الحديثة لا تربط بين تطور نتائج التلاميذ الدراسية وتوظيف التكنولوجيات الحديثة في التدريس .
في الشأن التربوي : عندما يلبّي التعليم حاجيات المتعلّمين
التعليم هو الذي يعطي الأمل للإنسانية في إصلاح عالمنا وتغيير ملامحه . وهذا لا يحصل إلا بواس…